الغربة ألــم وأمــل! - أحمد علي سليمان

لم يَجدْ في الدار أسبابَ البقا
وغريبُ الدار يُضنِيه الشقا

ضاقتِ الدنيا على مُستعفِفٍ
قرَّرَ العيشَ على نهْج التقى

خاف أن يُفتن في دين الهُدى
فتنة الدين بلاءٌ يُتقى

جنبَ النفسَ الدنايا والهوى
بالغاً أسمى الصُّوَى والمُرتقى

واستمى بالروح عن أخزى الورى
تالياً آياتِه قبل الرُّقى

لم يعِشْ يوماً عليهم عالة
بل على مَن ساء ظناً أشفقا

رغم إملاق تحلى بالعطا
وفؤادُ الشهم مغمورٌ نقا

ثم لاحتْ غربة ينأى بها
عن ديار ما له فيها بقا

لم يُحَدِّدْ – إذ نوى - أهدافها
غَرَّبَ الدَّربُ ، وهذا شَرَّقا

خَبْط عَشْواءٍ غدَتْ خَطْواتُه
ودروبُ الشهم زِيدتْ عَسْلقا

فارتأى في الصحب أصفى مَعشر
وارتأى في الأهل رَوضاً مُورقا

خَصَّهم بالخير والحُسنى معاً
ناصحاً حِيناً ، وحِيناً مُنفِقا

فاتحاً بيتاً وقلباً للألى
أحسنَ الظنَّ بهم والمنطقا

فإذا بالصحب أعداءٌ ، بدتْ
منهمُ السوآى ، وعَز الملتقى

لم تكنْ عنهم إشاعاتٌ ، فقد
آثرَ المظلومُ أنْ يَستوثِقا

في لِقاءٍ وَدَّ أنْ لو لم يكنْ
صحبة خانتْ ، فما جدوى اللقا؟

أعلموه الكيدَ تكوي ناره
والإخاء العذبُ فوراُ أحرِقا

وإذا بالأهل أعوانُ العِدا
أشعلوا الحربَ ، وقادوا الفيلقا

شيطنوا شهماً بنى أمجادهم
ثم حاكوا للشقيق المأزقا

راهنوا عمداً على تحطيمه
وارتأوا فيه السفيهَ الأحمقا

كي يكون الكيدُ تبريراً لهم
منطقٌ في الكيد أمسى أخرقا

يا غريباً لم يخُنْ أو يرتذلْ
لا تهِنْ أنْ كنت أنت الأسبقا

هذه الغربة لو تدري أبتْ
أن تُعِيرَ العفَّ صمتاً مُطبقا

أملٌ هذي له آلامُه
أملاً أهدتْك عذباً شيقا

كشفتْ قوماً بدتْ أغراضُهم
فتبصَّرْ ، بات هذا الأليقا

أعلمتْك الحق حقاً ، فاتبعْ
إنَّ فيما جئت خيراً غيدقا

أعلمتْك النذل حتى يُزدرى
ثم لا تلقاه حتى يَنفقا

أعلمتْك الخِبَّ يَستعدي المَلا
حاملاً – كي لا تراه - البيرقا

أعلمتْك العبدَ بالقرآن لم
يرتفع رأساً لكي يسترزقا

أعلمتْك السَّبْحَ في بحر الأذى
إنْ علمت السبحَ لا لن تغرقا

مَدُّه والجَزْرُ صاغا قصة
سَردُها يبغي لساناً أذلقا

أعلمتْك الناسَ ما أوزانهم
حُق للجاهل أن يستغرقا

لم تكنْ تُدرك مِن أحوالهم
لم تكنْ تدري العدوَّ الأزرقا

لم يكنْ عقلك يدري كُنههم
كان تفكيرُك جداً ضيِّقا

أنت مسؤولٌ عن البلوى عَتتْ
ثم أهدتْك الجَوى والمَزلقا

فاسأل الرحمنَ تثبيتاً على
منهج التقوى ، وعِدْ أن تصدُقا

مناسبة القصيدة

(قبل سنواتٍ ، كتبتُ قصيدة: (من أرشيف الغربة) أبينُ فيها آلامَ الغربة وعذاباتِها. ثم بدا لي أن أعِيدَ النصَّ بصياغةٍ جديدةٍ عنوانُها: (الغربة ألمٌ وأمل) أبين فيه ما ينبغي أن يُدركه كلُّ غريب والحقيقة أن كل غريبٍ لم يُحدد أهدافَ غربته ، ولم يسعَ في تحقيق هذه الأهداف ، فعليه أن يدفع الثمنَ غالياً جداً. والصحبة في الغربة نوعان: نوعٌ لديه من الشهامة والنجدة والمروءة ما يجعله يحملُ عن صاحبه عِبءَ الغربة وألمَها. ونوعٌ لديه من الخسة والوبشنة والنذالة ما يجعله عبئاً ثقيلاً على صاحبه في غربته. والزكيُّ العبقري من وضع أهداف غربته ، وسعى جاهداً في تحقيقها. باختصار: الغربة ألمٌ وأمل. علم ذلك مَن علمه ، وجهله من جهله.)
© 2024 - موقع الشعر