المقابر تتكلم 9 ميت يعزي نفسه! - أحمد علي سليمان

زوانيَ الموتُ عن أهلي وعن وطني
وزجَّ بي الوَجْدُ في مَرثيَّة الوَهنِ

واشحَوحَبَ الجسدُ البالي على عَجَل
فرْداً يواسِي زوالَ المَنظر الحَسن

يبكي على نضرة الأحوال جندلها
حتفٌ مُبيرٌ دهى محاسنَ البدن

ينعِي رحيلي وحيداً عن بُلهنيةٍ
ما كان قلبي بها يوماً بمُفتتن

يأسى أسيفاً لِما أودَى بعَزمته
يشكو أسى عاثر البلواء والمِحن

ما قصَّرَ الأهلُ في تغسيل ميِّتهم
بالدمع قبل طهور الماء يُنْظِفني

حتى إذا فرغوا جاؤوا بمنشفةٍ
فجففوا الماء مشفوعاً به دَرَني

ومدَّدوا الجسمَ لدْناً لا حِراك بهِ
وبعدُ لفوه في لفائف الكفن

وأخرجوني من الدار التي احتفلتْ
بالمُكث في أمِّها ردحاً من الزمن

والأهل قد حملوا الجثمانَ عن رغب
ما عاد للمَيْت مِن أهل ولا وطن

وللجنازة معناها ومَحفلها
إذا أقيمتْ على شرائط السَّنن

وجُلُّ مَن حضروا حقاً ذوو عمل
مِن البوادي أتوا ، أو شاطن المدن

ألغوا مواعدَهم ، وأقبلوا قدُماً
وفي الوجوه تعابيرٌ من الحَزَن

الناصحون أتوا ، والهازلون أتوا
وشارك البعضُ مِن شام ومِن يمن

وعند قبري انتهتْ آثارُ مِحنتهم
فلم يَعُدْ أحدٌ منهم بممتحن

والبعضُ أعلنَ في الشجوى تكلفه
ونالني منه أطيافٌ من الشجن

حتى إذا غيَّبَ اللحَّادُ جثتهُ
وردَّ (كُوفرتة) والشالَ ذا الشطن

حلا الدعاءُ لقوم كنتُ رائدَهم
دعَوا لعبدٍ بلطف الله مرتهن

والبعضُ صافحَ مَن جاؤوا يُشاطرُهم
بمنطق لبق مِن مُفصِح لسن

وعاد كلٌّ إلى أهليه ملتهياً
كأنه لم يعِشْ شيئاً من الإحن

وعِشْتُ وحدي بقبري مؤنسي عملي
ما كنتُ أصنعُه في السر والعلن

كم اشتريتُ ، وما باليتُ عاقبة
واليوم أدفعُ جَبراً غاليَ الثمن

وكم تجَرَّأتُ مُغترَّاً بمَغفرةٍ
وكم عصيتُ ، وربُّ الناس يرقبني

وكم بذلتُ خيوراً لستُ أعلمُها
وكم رحِمتُ لعل الله يرحمني

وكم تحمَّلتُ أعباءً مُتلتلة
كالبحر لم تُضنِه حُمولة السفن

واليوم أمتِعتي حِيزتْ لمَن ورثوا
يقول كلٌ: هُدى الإسلام ورَّثني

أين المفاتيحُ لم تفتح لصاحبها
باباً فعنها نأى في مَدفن شطن؟

أين الحقائبُ لم تحمل ملابسَه
لها عليه كبيرُ الفضل والمِنن؟

أين الديارُ نأى بالموت ساكنُها
لمَّا تعُدْ للذي قد مات بالسكن؟

فلن يعود لها ، ولن تعود له
ذي سُنة ، كلنا نحيا على السُّنن

وأين أحذية تزهو بلابسها؟
اليوم لمَّا يَعُد للبس بالقمِن

أين الملابسُ؟ مَن بعدي سيلبسُها؟
اليوم ذا كَفني بالطوع يلبسني

وعِيشة الناس من بعدي فما وقفتْ
عليَّ لمَّا يكنْ فردٌ بمرتكن

والمالُ أضحى حلالاً للألى خلفوا
وعنه ربُّ الورى في الحشر يسألني

وسوف أنسى كما نسِيتُ مَن سبقوا
فمَن مِن الأهل بعد اليوم يذكرُني؟

عَزيتُ نفسي بنفسي غيرَ مكترثٍ
كالطير غرَّدَ محبوراً على فنن

لم تُنسني متعُ الدنيا نهايتها
لأنني لم أعشْ فيها على دَخَن

إني أصارحُ أقواماً بها فتنوا
لن تستفيدوا من الفوضى ولا الفتن

والقول أطلقه بلا مُواربةٍ
كالقول أطلقه بنصه المرن

عُودوا إلى الله واحتاطوا لمِيتتكم
والموتُ في غربةٍ كالموت في الوطن

مناسبة القصيدة

(كل شاعر يقرأ قصيدة: (ليس الغريب غريب الشام واليمن) لزين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب – رحمه الله - ، لا بد من أن يتأثر ، وقد يشرع في محاكاتها! وقد حاكاه فيها شعراءُ كثيرون في القديم وفي الحديث! ولعل هذه لها نفس النفس وذات البحر وعين القافية! وما ذلك إلا لعذوبة وجمال ونقاء وحباكة وسبك نص: (ليس الغريب غريب الشام واليمن)! ولقد سبق هذه القصيدة ثماني قصائد تحمل العنوان ذاته: (المقابر تتكلم)! واليوم هذا هو الجزء التاسع من السلسلة ، وقصيدته بعنوان: (ميت يعزي نفسه) ، وأعني به الكاتب الكويتي المحترم عبد الله الجار الله صاحب مقالة: (عند موتي لن أقلق!) ولن أهتم بجسدي البالي فإخواني من المسلمين المؤمنين الموحدين سيقومون باللازم ، سيجردونني من ملابسي وسيغسلونني وسيكفنونني وسوف يخرجونني من بيتي! وسوف يذهبون بي إلى مسكني الجديد: (القبر) ، وسيأتي الكثيرون لتشييع جنازتي! بل سيلغي الكثير منهم أعماله ومواعيده ؛ لأجل دفني ، وقد يكون الكثير منهم ، لم يفكر في نصيحتي يوماً من الأيام! أشيائي سيتم التخلص منها: (مفاتيحي – كتبي – حقيبتي – أحذيتي – ملابسي)! وإن كان أهلي موفقين فسوف يتصدقون بملابسي لتنفعني! ياقوم: تأكدوا بأن الدنيا لن تحزن علي ، ولن تتوقف حركة العالم ، واﻻقتصاد سيستمر ، ووظيفتي سيأتي غيري ليقوم بها ، وأموالي ستذهب حلالاً للورثة بينما أنا الذي سأحاسب عليها: القليل والكثير ، النقير والقطمير ، وإن أول ما يسقط مني عند موتي هو اسمي. لذلك عندما أموت سيقولون عني: أين الجثة؟ ولن ينادوني باسمي. وعندما يريدون الصلاة علي ، سيقولون: احضروا الجثة. "الجنازةولن ينادوني باسمي ، وعندما يشرعون في دفني سيقولون: قربوا الميت. ولن يذكروا اسمي. لذلك ما غرني نسبي. ولا قبيلتي يوماً. وما غرني منصبي ساعة من نهار. ولا شُهرتي فما أتفه هذه الدنيا. وما أعظم ما نحن مقبلون عليه فيا أيها الحي الآن والميت غداً ، اعلم أن الحزن عليك سيكون على ثلاثة أنواع: الناس الذين يعرفونك سطحيًا سيقولون: مسكين. أصدقاؤك سيحزنون ساعات أو أيامًا ، ثم يعودون إلى حديثهم ، بل وضحكهم. الحزن العميق إنما هو في البيت! سيحزن أهلك أسبوعاً أو أسبوعين ، شهراً ... شهرين... أو حتى سنة ، وبعدها سيضعونك في أرشيف الذكريات! انتهت قصتك بين الناس وبدأت قصتك الحقيقية. وهي التي لا هروب من مواجهتها! لقد زال عنك كل شيئ وكل شخص! زال عنك المال والجمال ، والصحة والعافية ، والأهل والولد! فارقت الدور والقصور ، والزوج والأبناء والأقارب! والأصدقاء والأصحاب والزملاء! ولم يبق معك إلا عملك ، وبدأت الحياة الحقيقية! والسؤال هنا: ماذا أعددت لقبرك وآخرتك من الآن؟ هذه حقيقة تحتاج إلى تأمل. وأعتذر عن طول مقدمة هذه القصيدة ، ولكنه مقصود ومتعمد ، لعلنا نتعظ من الموت وكرباته ، والقبر وأهواله ، والآخرة وما بعدها من أحداث ، والمصائر للجميع إما إلى جنة نسأل الله من فضله وإحسانه ، وإما إلى نار ، نعوذ بالله تعالى من النار ، ومن سوء الخاتمة ومن عذاب القبر! نسأل الله أن يحسن خاتمتنا في الأمور كلها!)
© 2024 - موقع الشعر