هل هؤلاء بشر؟! - أحمد علي سليمان

العُرفُ يرفضُ ما تأتون والدينُ
وكل مُتصِفٍ بالعَق ملعونُ

وكيف ترجون مِن رب السما فرَجاً
وكل سَعيكمُ بالظلم مَقرون؟

وهذه الأم لم تُهملْ رسالتها
بل جُهدُها بعد موت الزوج ممنون

تقدَّمَ الخاطبون الحبُّ يَسبقهم
وفي الضمائر بذلُ الودِّ مكنون

جميلة تأسِرُ العيونَ رؤيتُها
وعَفة ، ولها الإعجابُ عربون

لكنما طعنتْ جمالَ خِلقتها
في كفها بعد طعن الحُسن سكين

وسربلتْ حُسنها بدون مرحمةٍ
والحُسنُ مما أتتْ بالكرب مَرهون

وآثرتْ في دجى البلوى أيومتها
كي لا تُهدِّدُها المعيشة الدون

لمّا تُردْ زوج أم لا يُعاملهم
بكل عطفٍ ، فما في قلبه لين

ضَحَّتْ ، ولم تنتظرْ منهم مكافأة
وقلبُها بسهام العيش مطعون

واستسلمتْ لعذاباتٍ يَضيقُ بها
أقوى الرجال ، ويَخشاها الدهاقِين

وواصلتْ يومَها والليلَ كادحة
حتى يكون لهم في العيش تأمين

وعلمتْهم ورَبَّتْهم ، فدامَ لها
بين الخلائق تكريمٌ وتمكين

حتى إذا كبروا زاغتْ بصائرُهم
وكان منهم لهذي الأم تخوين

وأوقدوا فتنة العقوق ساعرة
ولم تعُدْ قِيمٌ ولا مَوازين

حتى البُنيات ما فيهن مَرحمة
كأنما استهوتِ الغِيدَ الشياطين

كلٌ تزوجتِ الزوجَ الذي رَغِبت
وعيشُ كل مِن التشتيت مَصوون

وسافرتْ لبلاد الغرب واحدة
واستقبلتْ أختها في الغربة الصين

وقال الابنُ لها: عيشي مُكرَّمة
وحب زوجي لأمي اليوم مضمون

والأم ما عارضتْ سُكناه شقتها
وأقلمَت نفسَها ، وساد توطين

وبعد حين بدَتْ جهراً حقيقتُها
إذ قلبُها بسعير الكيد مَشحون

إما أتى زوجها تكون طيعة
وقولها بشذى الرمان مَدهون

وإن يَغِبْ تُظهر الرعناءُ قسوتها
فالفعلُ مرتذلٌ ، والقولُ مِنتين

وذات يوم أتتْ بشرح مُقترح
يفوحُ مِن هوله ظلمٌ وتأفين

قالت وبئس الذي قالتْه آثمة:
البيتُ ضاق ، وتُخزينا البراهين

دارُ المسنين أولى بالتي طعنتْ
وفي قرارك يا زوجَاهُ تفطين

فأودِعَ الأم كي ترتاحَ زوجته
في (الدار) رفقتُها فيها المساكين

والكل قاطعَها ، والرأي مُتحدٌ
وضاعَ جُهدٌ ، وأذرتْه الطواحين

وجاءَها الموتُ ، فاشتاقت لهم وغدتْ
في التو تطلبُهم ، والنشدُ موزون

فما أتى أحدٌ حتى يُودِّعَها
إذ كل فردٍ بما لديه مفتون

وماتتِ الأم ، والأبناءُ ما حضروا
ولم يكن منهمُ للأم تأبين

والقائمون على الدار استبد بهم
شكٌ تُغلفُ فحواه الأظانين

هل هؤلاء بما قد أحدثوا بشرٌ؟
واللهِ موعدُهم في العِيشة الهُون

جاؤوا لتقسيم ميراثِ التي رحلتْ
وكل فردٍ بإرث الأم ميمون

لا بد تلحقهم لعائنٌ وجبتْ
أما الجُسومُ ستُضنيها الطواعين

ربَّ الأنام انتصرْ مِن كل مُجترم
وأمرُك الأمرُ (كافٌ) بعدَه نون

مناسبة القصيدة

(تحكي إحدي عاملات دار المسنين هذه القصة! قائلة: توفيتْ منذ شهر نزيلة بالدار اسمها الحاجة عائشة عن عمر يناهز الثانية والثمانون عاماً تقريباً! ولقد أتت إلي الدار منذ عشرين عاماً! وأنا أتذكر هذا اليوم جيداً! لقد أتي بها ابنها الدكتور ياسر! ولقد كان وجهها شاحباً وتكاد لا تتحدث إلا بإيماءاتٍ قليلة! وعندما تحدثت معها أخذت في البكاء الشديد! وقالت: لقد كنت أعمل بمهنة التدريس للغه الفرنسية ، وتعرفت علي زميل لي مدرس للغة الفرنسية أيضاً! وصارحني بإعجابه بي ورغبته في الزواج مني ووافقت علي الفور لأن أخلاقه طيبة وصفاته جيدة! ولقد تم الزواج والسنين مرت سريعاً! وأنجبت ثلاثة أبناء:- (ياسمين وعبير وياسر)! وكاد لا يمر علي زواجي عشرة سنوات ليتوفي زوجي إثر حادث ليترك لي مسؤولية ثلاثة أنباء مسؤولية كاملة! وأكملت رسالتي مع أبنائي ، ورفضت الزواج مرة أخري رفضاً قاطعاً ، مع كل الضغوطات من عائلتي لأن عمري وقتها كان لا يتعدي الخامسه والثلاثين! ولكن كرست كل حياتي لهم! وعملت بالمدرسة وبالدروس الخصوصية ليلاً ونهاراً ، لأكمل تعليمهم في مدارس انترناشونال! وليظهروا بمظهر جيداً أمام المحيطين بنا ، وكذلك أمام زملائهم بالمدرسة والنادي! وكان يومي مشغولاً جداً ما بين عملي ومذاكرة أولادي وتمارين النادي! ولكن مرتِ الأيام سريعاً! ليكبر أطفالي ويتخرجوا من كليات القمة كما يقولون! وسافرت ياسمين لاستكمال دراستها بإنجلترا وتعرفت علي زميل لها وتزوجت واستقرت بالغربة! وابنتي الثانية لقد تزوجتْ بأستاذها بالجامعة وجاءه عمل بدولة عربية وسافرت معه! أما ابني الدكتور ياسر فتزوج من طبيبة زميلته! وطلب مني أن يتزوج في منزلي ، ووافقت علي الفور ، وتم تجديد المنزل من كل شئ لأرى السعاده في عين ابني! وتزوج وإذا بزوجته تعاملني معاملة غريبة الشكل وكأنني خادمة لها! ولكن أمام ابني تتعامل معي وكأنها هي خادمة لي! ومرت الأيام ورزق الله عز وجل ابني بأطفال وضاق المنزل علينا! والظروف لا تسمح بتوفير منزل أوسع من هذا! وذلك لأن زوجته تصرف مبالغ طائلة علي ملابسها ومظهرها ، وكل عام تقوم بتغير نوع سيارتها للأحدث ، ولم يتبق إلا بعض المصاريف الشهرية! فاقترحتْ زوجته أن يذهب بي إلي دار للعجزة! وأنا لا أعلم شيئاً إلا أن في يوم من الأيام قال لي ابني: أمي أحضري حقيبتك ، فأنا أريد أن أذهب معك في نزهة! ولقد فرحت فرحاً شديداً فأنا منذ زمن لم أتنزه ، فقد كان يأخذ زوجته وأولاده إلي المصيف ، ويتركني وحيدة أتحدث مع جدران منزلي! فقلت له: إلي أين يا بني؟! قال: إلى البحر! وبالفعل وضعتُ كل ما هو جميل من ملابسي وأشيائي في حقيبتي! وفي الصباح ، قال ياسر: هيا أسرعي يا أمي! فقلت له: أنذهب أنا وأنت فقط؟! يا بني أحضر معنا زوجتك وأولادك! فقال لي: لا فالنزهة لك أنت وحدك! وبالفعل ركبنا السيارة! وبعد نصف ساعه توقف ياسر ، وقلت له مسرعة: أوصلنا بهذه السرعة؟! وقال بحدة: انزلي يا أمي ، وبعد بضعة دقائق أري أمامي لافتة مكتوب عليها دار العجزة! ولقد تسمرتُ مكاني ، وزادتْ ضربات قلبي ، وأنزلني رغماً عني وها هنا انا الآن أمامك يا سيدتي! وبذلك أنهت حديثها الحاجة عائشة! وخلال العشرين عاماً لم يأت أحد من أبنائها لزيارتها! إلا ياسمين فقد أتت مرتين أو ثلاثة بالكثير لرؤية والدتها! وقبل وفاة الحاجة عائشة ، اتصلنا بأبنائها وشرحنا لهم حالتها الصحية ورغبتها الملحة في رؤيتهم هم وأحفادها ، ولكن للأسف لم يأت أحد لزيارتها! إلا بعد وفاتها أتى الثلاثة أبناء معاً ، لاتخاذ إجراءات إعلان الوراثة! إنني عندما قرأتُ هذه القصة تساءلت: هل هؤلاء بشر؟ هل في الدنيا أبناء وبنات كهؤلاء؟! والله العزيز قد تتورع البهائم والعجماوات والسوائم عن مثل هذا! وكم رأينا من عبر وعظاتٍ تدل على رحمة الحيوانات بالناس وبأنفسها! فهل يصبح بعض الأبناء والبنات اليوم في مرحلةٍ أخس وأحقر وأدنى من الحيوانات والبهائم؟ ولا يتساوون بالكلاب والقطط في معاملة والديهم؟)
© 2024 - موقع الشعر