رقم من هذا؟! - أحمد علي سليمان

يا صَدِيقاً أزرى بكل مَديح
كم حَبانا بكل رأي رَجيح

فاق عَشراً مِن الصِّحاب وَحيداً
ذو فؤادٍ شهم لأشهم رُوح

طلّق الدنيا ، واحتفى بطلاق
ما له في الرُّجْعى لها مِن طموح

ثم أمسى للخِل أوفى خليل
لم يكنْ في بذل الوفا بالشحيح

واصطفاه زوجي صديقاً حَميماً
ذا عطاءٍ جَم ووجه صَبوح

قال زوجي مُعَرِّضاً بالوصايا
عند موتي لا تحزني أو تنوحي

لا تُبالي بالكرب إمَّا تمادى
واعمدِي للسُّلوان والترويح

ثم أجري بالشهم هذا اتصالاً
كي تفوزي بالصفو والتبريح

إن هذا يا زوجتي أخ صِدق
وله أزجيتُ عذبَ مديح

واتصَلتُ إذ مات رغم اعتدادي
قال: إني للحزن أشقى طريح

ثم جاد بالمَكرُمات احتساباً
دون إصغاءٍ سُقتُهُ لشُروح

قدَّمَ الخيرَ يَبتغي وَجهَ رب
والمُصابُ أدى لبعض القروح

خصَّني والأولادَ بالمال جَمَّاَ
بفؤادٍ مُستعبِر مفتوح

لم يُسَوِّفْ في وعده أو يُماطلْ
لم يُفاخرْ بجُوده المَمنوح

لم يَمُنَّ بالأعطيات علينا
كلُّ مَن يُفضي لشر فُضُوح

بل حَبانا مِن ماله ما كفانا
دون لوم مُخز ولا تجريح

صانَ ودَّ الصديق بعد رحيل
كان ذا عزم – في العطا - وطموح

أفلحَ الزوجُ في اختيار صديق
فاجأ الكل بالعطا المَربوح

عَزمُ بعض الأصحاب حقاً حديدٌ
ثم أبعاضٌ عَزمُهم مِن صَفيح

وعَطا بعض الصحب شَهدٌ مُصَفىً
وعطا البعض مِن نقيع الشِّيح

مناسبة القصيدة

(رقم من هذا؟ إنه رقم أخي. لقد اعتاد رجل أن يقول لزوجته دائماً عند خروجه من المنزل: إذا حصل لي مكروه لا سمح الله ، أو تأخرت في الخارج. واحتجتم لأي شيء اتصلوا على هذا الرقم. وسجل لها رقماً محدداً. فقالت الزوجة بفضول: رقم من هذا؟ فأجابها قائلاً: إنه رقم أخي؟ وهنا تعجبت الزوجة من هذه الإجابة ، وحُق لها أن تتعجب. حيث إنها تعلم جيداً بأنه ليس لديه إخوة. فهزت برأسها قائلة: حسناً؟ وذات مرة غاب الزوج عن المنزل لأسبوع بأكمله. ولم يكن من عادته أن يغيب كل هذي المدة دون حس ولا وخبر؟ فبدأ مخزون البيت ينتهي شيئاً فشيئاً. حتى أصبح لا يوجد ما يأكلونه ، وهنا بدأت الزوجه تنهار والخوف يكسو حيطان منزلها. وكان الأبناء يبكون ويتضاوون من شدة الجوع. ولا يوجد شيئ لكي تُسكت به جوعهم. وحاولت طويلاً الاتصال بزوجها ، ولكن كان هاتفه خارج الخدمة أو مغلقاً. فتواصلت مع أهلها الذين سألوا هنا وهناك ، واستيقنوا من موت زوجها. فأعلموها أن جثمانه في مستشفى كذا بمدينة كذا منذ أيام. وعندما بدأت الأمور تسوء أكثر ، تذكرت توجيهات زوجها حين أخبرها بأن إذا احتاجت شيئاً فوراً تتصل بصاحب الرقم الذي سجله لها. وبدون تفكير اتصلت بصاحب الرقم. فأجاب: مرحباً مرحباً من المتصل رجاءً؟ فقالت وهي تبكي: لقد مات زوجي وجثمانه في مستشفى كذا في مدينة كذا. وإن أطفالي يموتون جوعاً ، ولا يوجد ما نأكله منذ أيام ، ولقد أوصاني زوجي فلان بن فلان (وسَمَّت زوجها) أن أتصل بك ، وقال أيضاً بأنك أخوه ، وأنا أعلم جيداً بأنه ليس لديه إخوة ، وطلب مني أن إذا احتجنا شيئاً نتصل بك ، وها نحن أولاء نواجه مصيبتين: الأولى في رحيله ، والثانية في انعدام الموارد. نكاد نموت جوعاً ، منذ اختفائه وتغيبه عنا ، ولا نعلم عنه أي خبر حتى أعلمني أهلي بوفاته. فقال لها: اغلقي المكالمة أنا في الطريق إليكم حالاً ولن أتأخر (إنها مسافة الدرب)؟ وبعد عشر دقائق وصل صديق زوجها وهو يحمل من أصناف الطعام ما يحمل ، وبجانبها ظرفاً بداخله مال ، فقام بتركه بجوار الباب في مكان بارز تراه جيداً ، وعاد من حيث جاء؟ وأخذتِ الزوجة الطعامَ وهي تبكي. وبعد ذلك بدأ الصديقُ الشابُ في البحث عن صديقه المفقود ، وفي الاستيثاق من أخبار أهلها تلك ، وبعد ساعتين من البحث وجد صديقه متوفياً في إحدى ثلاجات المستشفى ، بعيداً عن المدينة التي ذكرت ، حيث دَهسَتْه شاحنة ، وكان سائق الشاحنه قد فر هارباً؟ وعاد الشاب بجثمان صديقه المتوفي إلى بيت زوجته وأطفاله. وقام بكل اللازم من إجراءات الغسل والتكفين والدفن ، وتكفل برعاية أطفال صديقه وزوجته. حتى كبر الأطفال وأصبحوا في الجامعات من نفقات صديق والدهم الوفي الأصيل. ولم تكن الزوجة تصدق أن صديق زوجها سوف يتحمل ثقل حملهم طوال تلك السنين ، ولم يتركهم يحتاجون شيئاً قط ، ولا يمدون أيديهم للناس من ولا للأقارب من حولهم سائلين النفقة. فلله درك يا ابن الأصول. ونعمت الصداقة النبيلة الرائعة الماتعة. أين نحن من هؤلاء في هذا الزمان ، من الذين يرمون آباءهم وأمهاتهم فضلاً عن سائر أهاليهم في دُور العجزة؟ أين نحن من أناس يتركون جيرانهم يبيتون يتضاوون جوعاً وعطشاً؟ فلما أخِذتُ بجلال الموقف وجمال القصة كانت هذه القصيدة ترجمة للأخذ الصعب.)
© 2025 - موقع الشعر