القلب في الخيام - باسل عبدالله

سأقفُ عند هذا الرُّكام
خلفَ المآسي
والعيون الصابِرةْ
وخلفَ الأحزانْ
أنتظرُ أن يَهطُلَ المطر
وأن يَتحَوَّلَ نَهراً عظيماً
يَمسحُ عن جَبِينِكِ يا خيامْ
هذا الغبار، وهذا الدُّخانْ...
يَمسحُ الأسى
عن أفئِدةٍ تَوارَتْ في الظلام
أشكُو إليها وَجَعِي،
استيائِي
وغضبِي...
أرسلُ مع نَبَضاتِها حُبِّي
إلى طيرٍ ضاعَ عشُّهُ بينَ الحطامْ
وحبَّاتِ عِنَبٍ تَساقطتْ في الليلِ السُخامْ
وغَنَمَةٍ زَحَفَتْ بِحَمَلِها المُصابْ
إلى فَيْءِ شجرةِ سِنديانْ
.. أرسلُ حُبِّي
إلى زَنبَقَةٍ تَعشقُ الحياةْ
أطلَّتْ مِن بينِ نِثارِ الرَّماد
إلى صَفصَافَةٍ أصيلة
شُجاعَةٍ
عَنيدةْ
جُذُورُها ضارِبَةٌ في أرضِ الخِيَامْ
ثَبَتَتْ ترفُضُ الاستِسلامْ
أسند كَتِفِي إليها
أَحتَمِي بها
مِن هَولِ ما جَرَى ويَجرِي
حيثُ العاصفة الهَوجاءْ
تُحاولُ أن تُردِي الأملَ أشلاءْ
...
سأقفُ عند هذا الرُّكامْ
فكرةٌ تَجُرُّ فكرة
خاطرة تجُرُّ خاطرة
قلقٌ،
أرقٌ
وأوهامْ
مَشاعِرُ تَتَفاعل
تَختلِجُ في الوجدانْ
تَنقَلِبُ رَعشَةً
صَرخةً
قَبْضَةً من صَوَّانْ
تَمُرُّ فوقَ الشُجُون والآلامْ
مِن ثُقُوبٍ أحدثَها وَحشٌ في الجُدرانْ
لِتَرسُمَ دائِرَة القمر
ومَسارَ القَدَر
وإرادةً تَفُكُّ حِصاراً عُقامْ
...
سَأَتَقدَّمْ
والقلبُ يَبحَثُ في الخِيَامْ
عَن عبيرٍ عَبِق وعَن ألحانْ
عَن باقةِ قِصصٍ وذِكرياتْ
وسَنَابِلِ فرحٍ، وأحلامْ...
عَن زَوَّادَةِ مِسْكٍ وعَنبَر
وسَهْلٍ سَمْحٍ أَخضر
ونَظراتِ شَوقٍ وهِيامْ
...
سَأَتَقَدَّمْ
والقلبُ يَبحثُ في الخيامْ
عن ريشةٍ أفلتَها "أبو الحِنْ"
وكِيْنَايَةٍ طاعِنَةٍ في السِنْ
تَنَاثَرَتْ أوراقُها في البُستانْ
وعَن سلَّةٍ يَمْلَؤُها الحَنِيْنْ
والصبَّار والتِّيْن
وعَن قوسِ أُمنياتٍ مُزَخْرَفٍ بالألوانْ
...
سَأَتَقَدَّمْ
والقلبُ يَبْحَثُ في الخِيَامْ
عَن رندُوحَةٍ رَدَّدَتْها جَدَّتِيْ
وعِنَاقٍ مُفعَمٍ باللَّهْفَةِ
عَن بَسمَةٍ وَقُبْلَةٍ نَدِيَّةْ
وَرَسَائِلَ خَبَّأتُهَا مَع الهَويَّةْ
...
سَأَتَقَدَّمْ
والقلبُ يَبْحَثُ في الخِيَامْ
عَن رَاعٍ شَقَّتْ عَصَاهُ الرِّيَاحْ
فَسَاقَ القَطيعَ لِلُقَى الصَّباح
عَن فلَّاحةٍ تَأبَّطَتْ جَرَّةَ ماءْ
وَكَأنَّها غَمَرَتْ بَهْجَةَ المَساءْ
عَن فَتىً طارَدَ سَحابَةً صَيْفِيَّةْ
سَبَحَتْ في سَماءِ العَشِيَّةْ
عَن فراشَةٍ نَجَدَتْ وَردَةً جُورِيَّةْ
ارتَجَفَتْ في المَزْهَرِيَّةْ
...
سَأَتَقَدًّمْ
والقلبُ يَبْحَثُ في الخِيَامْ
عَن بُحَيرَةٍ زاهِدَةْ
شارِدَةْ
على ضِفَافِهَا أَدعِيَةٌ بِالسَّلامَةْ
وبُشْرَى تَحمِلُها يَمَامَةْ
وَزَغْرَداتٌ تَتَنَاقَلُ صَداها الوِديانْ
...
سَأَتَقَدَّمْ
والقَلبُ يَبْحَثُ في الخِيَامْ
عَن ماءٍ يَلهُو بَينَ راحَتَيْ طِفل
بَلَّلَهُ الشتاءُ في المَنامْ
وعَن مَعصَرَةِ الزَّيتُونْ
وغَمَامَةٍ أَغْرَتْها رائِحَة اللّيمُونْ
وعَن هِضَابْ
وطِيْبٍ يَفُوحُ مِن عُطرِ التُّرابْ
وعَن نَسِيْمْ
وعَن شَجَرَةِ يَاسَمِينْ
تُلْقِي التَّحِيَّةَ على الراحِلِينْ
وعَن دُمُوعْ
وعَن صَلاةٍ وخُشُوعْ
لِوُجُوه عَرَفَتْها الأَزِقَّةُ والدُرُوبْ
والفَجرُ والغُرُوبْ
أَبَتْ أَنْ تَرحَل
أَبَتْ أنْ تُهاجِر
زَيَّنَتْ الحُقُولَ والبَيَادِر
لمْ يُرهِبْها تِنِّيْنٌ حَرَّكَتْهُ الضَّغِيْنَةْ
حَرقَ سَاحات وبُيُوْت المَدينةْ
وَاجَهَتْهُ بِدُونِ هَوَادَةْ
بِالصُمُودِ حتَّى الشَّهادَةْ
وَغَادَرَتْ بِسَلامْ
قِطارَ الأَيَّامْ
لِتَروِي بِدِمَائِها رُبُوعَ الخِيَامْ
***
© 2024 - موقع الشعر