يتيمة أب حي! - أحمد علي سليمان

أبي أنت بِعت الصفا والرِّضا
وضاقَ بما جئت رَحبُ الفضا

وخنت الأمانة ، ما صُنتها
تظنُّ حسابَك كان انقضى

وشتَّتَ أماً ، وسربلتها
فذاقتْ مدى الدهر مُرَّ القضا

ويتَّمتَ بنتاً ، وجَندلتها
وأفقدتها في الحياة المضا

وسَلني عن القهر ناولتني
فما اسطعتُ للمجد أن أنهضا

أصارحْك ظلمُك أودى بنا
ولكنَّ رب السما عَوَّضا

وأبدِلتُ منك بأم جنتْ
مِن الفقر قِسطاً مَريراً مضى

وقيَّضَ ربُّك لي كافلاً
سِواك ، فبُورك مَن قُيِّضا

وعِشتُ وأميَ أضحوكة
لِمَن قد تفكرَ أو أعرضا

وأمي التي أتقنتْ دَورَها
ولاقتْ مصائرَها بالرضا

ورَبَّتْ ، ومِن بعدها عَلّمتْ
وكانت تُطبِّبُ إنْ أمرضا

وعنك سألتُ ، فما صارحتْ
وما اسطعتُ للردِّ أن أرفضا

فقلتُ: يُسافرُ لم يَكترثْ
بزوج وبنتٍ ، غدا مُدْحَضا

فلمَّا كبرتُ حَكتْ قِصَّة
تُشَمِّتُ مُستنكفاً مُغرضا

حكتْ لي ، ويا ليتها ما حكتْ
بلفظٍ كما البرق إنْ أومضا

وقلب يُحَكِّمُ رب الورى
بأمر إلى الله قد فوِّضا

وكنتَ تزوجتَ مَن تشتهي
ورأسُك في الحيِّ ما أخفِضا

ومات الصغارُ ، فلم يكتملْ
لك السعدُ ، بل أجهضا

وجُرِّعتَ في العيش مُرَّ الشقا
عليك به اللهُ دهراً قضى

وأمك ماتت لفرط الجوى
ووَجداً عليك المَقامُ اقتضى

وكان مُصابُك في حادثٍ
جزاء الذي الظلمَ كان ارتضى

وزوجُك بعد البلا فارقتْ
وعِشت رهينَ الأسى مُغمضا

إلى أن أتيت هنا مُكرَهاً
تُلاحِي بسبِّك مَن حَرَّضا

بدار المسنين مستهجناً
عذابٌ يُصبُّ كجمر الغضى

و(آلاءُ) جاءتْ تبث الهنا
بوجهٍ بَهيِّ السنا أبيضا

وقالت: بكيتَ فماذا جرى؟
أراك لمُكثي هنا مُبغِضا

فقال: تذكرتُ أمَّاً قضتْ
ومَن أنا حتى أردَّ القضا؟

ألا يا بُنية ، فلتغفري
لأبٍّ بأسراره فضفضا

ظلمتُ ، ونِلتُ العقابَ الذي
كدَين يُرَدُّ لمن أقرضا

مناسبة القصيدة

(دخل الزوج على زوجته التي أنجبت البنت لتوها ، ورمق البنت بنظرة حادة ، ثم نظر لزوجته المتعبة وقال: أنتِ طالق. لا لشيء إلا لأنها أنجبت بنتاً لا ولداً. ثم أدار ظهره سريعاً ، وهمّ بالخروج من الغرفة ، وقبل أن يغلق الباب من خلفه أخبرها بالخروج من بيته قبل عودته في المساء ، ثم أغلق الباب وخرج. فبكت بكاءً شديداً وجاءت أمها مهرولة تتعجب من خروج زوجها سريعاً ، فوجدت ابنتها تبكي بشدة ماذا حدث؟ نظرت إلى أمها وهي في كامل انهيارها وقالت: طلقني لأن الله ربي رزقني بنتاً. فأسفت الأم وحزنت حزناً شديداً ، ووجمت لبعض الوقت ، ولم تدرِ ماذا تفعل؟. هل تهدئ من روع ابنتها أم تبكي على حسرتها ، لتكمل ابنتها حديثها وهي تشهق باكية بل وأمرني بالرحيل من بيته يا أماه. كان الأمر أشبه بالصدمة والحسرة. وبالفعل خرجت وهي تحمل طفلتها مستندة على أمها بعدما ألقت نظرة أخيرة على شقتها التي لم تجلس فيها سوى تسعة أشهر. نزلت ولما وصلت إلى باب بيت العائلة وقفت حماتها على السلم تشمت بها. لم تغفل عينها يوماً إلا وقالت: حسبي الله ونعم الوكيل ، وكرست حياتها لتلك التي جاءت إلى الدنيا يتيمة أب حي يرزق. بينما تزوَّج هو من امرأةٍ أنجبت له ذكوراً ، لكن لم يفرح أبدًا وكأن الله تعالى يعاقبه بذنب ابنته وزوجته. فكلما أنجب ولداً يأتي الطفل ميتًا ، وقد توفيت والدته من حزنها على حال ابنها. وحتى زوجته تركته بعدما تعرض لحادثٍ أليم أقعده الفراش. ومضت الأيام تتبعها الشهور تتلوها السنوات بمُرها ولياليها الحالكة ونهاراتها الكثيرة المليئة بالذكريات المؤلمة ، ليذهب بعدها إلى إحدى دور المسنين وقد أخذه إليها أحدُ أبناء القرية ، حيث توجد في عاصمة البلاد لعله يجد الونس بينهم وينسى ما حلّ به. وذات يوم من أيام الجمعة رأى الجميع يُرَتبون أنفسهم ، ويهندمون ملابسهم في ذاك اليوم المخصص لزيارة الطبيبة آلاء والتي هي طبيبة نفسية حددت موعدًا أسبوعيًا تطوعياً لهم لزيارتهم والإطمئنان عليهم والأخذ بيد من تدمرت نفسيته إثر دخوله الدار. دخلت باسمة الوجه مشرقة تمسك بيدها صحنًا كبيرًا من الكعك الذي تصنعه خصيصًا لهم في كل زيارة ، التف الجميع حولها وأخذوا يضحكون كثيرًا وتضحك هي ، بينما جلس هو بعيدًا يتأمل فانتبهت لأمره فاستأذنتهم وذهبت إليه. بينما هو لم يتفوه بكلمة وظل يطالعها كثيرًا وكأنما يتفحصها. ماذا بك؟ هل تريد مساعدة مني في شيء؟ إن كان هنالك ما يزعج صدرك فأخبرني سأهون عليك الأمر. هل أحزنك أحدُ أولادك أو جاء بك إلى هذه الدار ضيقاً بك أو إرضاءً لزوجته؟ رد هو ولسانه مثقل بالهموم كصدره وقال: لا يا دكتورة ، أنا أعيش وحدي. فربتت هي على كتفه بنظرة حانية وقالت: أنا آسفة ، أعتذر لك إن كنت قلبت عليك المواجع وأثرت الفواجع. ثم نظرت شاردة واغرورقت عينها بالدمع. ولكنها لم تشأ أن تُريه دموعها ، فلربما كانت قصتها أكثر شجناً من قصته. وأرادت أن تخفف عنه فقالت في حزن لا يخفى: يا عماه ، جميعهم هنا يظنون أني آتي أسبوعياً فقط لأجل مساعدتهم بتحسين نفسيتهم ، ولا يعلمون أني آتي إليهم لمساعدة نفسي. فأنا يتيمة لأبٍ لا أعرف عنه سوى أنه طلق أمي منذ زمن ، فلم أتذوق في حياتي طعم حنان الأب. صحيح لم تحرمني أمي من شيء قط. لكن حرمني هو من كل شيء. وذلك بتركها وتركي وليدة في لفتها ، وتزوج من أخرى. لا لشيء سوى أنني كنت أول من ولدت (بنتاً). وهنا انفجر باكيًا وقد تذكر الماضي الذي حاول جاهدًا أن ينساه ، ونظر إليها بعين تطلب العفو ، وقد لاحظ الشبه الواضح بينها وبين أمه ، ذلك أن الفتاة نسخة بالكربون كما يقولون من جدتها لأبيها. وكانت المفاجأة الدامية الشجينة عندما سألها قائلاً: هل اسمك آلاء بنت فلان بن فلان بن فلان؟ وذكر الاسم هكذا رباعياً. (ولولا أنني لا أريد التشهير بالدكتورة آلاء وبأبيها) لذكرت الاسم كاملاً. ولكن يعنيني المَغزى أكثر من المكان والزمان والأشخاص. ولعلها قصة متكررة. وهنا انتفضت الدكتورة آلاء في مكانها ، وقد ذُهلت من معرفته بها وهي التي لا يعرفها أحد ، كما لا يعرف أحد منهم سوى اسمها الأول (لآلاء). فقالت له مقاطعة: كيف عرفت اسمي كاملاً؟ فأجاب في براءة وعفوية دافعها (التشبيه) فقط: أبداً يا دكتورة ، أخذتك بالشبه ، فأنتِ تشبهين أمي ، وكأنما أنتِ نسختها الكربونية الثانية ، وأنا اسمي فلان بن فلان بن فلان. فإذا بالاسم يطابق اسم أب الدكتورة آلاء ثلاثياً. فكادت أن تقع على الأرض من الصدمة التي حلت بها ولم تحسب لها يومًا حساباً. فلطالما حاولت بعيداً عن أمها البحث عن أبيها ، لكن لم تستطع أبداً. وذلك لئلا تجرح أمها ، كما أنها لم تكن تعلم عنه سوى اسمه ، فساقه الله تعالى إليها وساقها له ، فضمته ضمة طويلة ، ضمة فتاة ترى والدها لأول مرة. وغرقت كما غرق في سيل من الدموع حيث أدرك هو الأخر أن الدكتورة آلاء ابنته. ثم قالت: لن أسألك عما قد مضى ، لكنني أسأل
© 2024 - موقع الشعر