بائعة الخبز التونسية! - أحمد علي سليمان

لمياءُ أقصوصة تستلفتُ القاري
وتستحِقُ – وربي – مَنحَ أوسكارِ

يا قِصة ثبتتْ في كل مُصطدم
وأثبتتْ أنها تُزري بأوعار

يا قِصة ذكَّرتْ قوماً لينتبهوا
وأصبحتْ في المعالي خيرَ تِذكار

يا قِصة (تونسُ الخضراءُ) تغبطها
على الشجاعة لم تعبأ بأخطار

يا قِصة كُتِبتْ بالفخر أسطرُها
فاستأثرتْ في الدنا بكل إكبار

يا غادة لم تُعَرقلها أنوثتُها
برغم ما لقِيتْ من شر إحصار

وما استكانتْ لِمَا في الدار من إحَن
فلم يكنْ همُّها عِبئاً على الدار

في (باجةٍ) الحُسن لم ْيَزغ لها بصرٌ
وإنْ يَزغ حولها كثيرُ أبصار

هذي اليتيمة قضَّ اليُتمُ مَضجعَها
ولم يُصِبْ عزمَها بأي إضرار

والخالُ والعمُّ لا حِسٌ ولا خبرٌ
ولا قلوبٌ لهم ، بل صُمُّ أحجار

لم يَكفلوا أسرة (لمياءُ) عائلها
وما لها مَددٌ من أي أجوار

هذي العِصامية المَضاءُ طابَعُها
وفي مَسيرتها وَفيرُ آثار

لها شقيقاتٌ الحياةُ ما رحمَتْ
لهن يُتماً ، وتبقى رحمة الباري

يَصغرْنها أربعٌ ، والأم بائسة
يَحْيين في كُرَب تكوي وأكدار

ماذا عليها ، وقد طمَّتْ بليتُها؟
وكم يلوكُ اليتامي ذلُ أمرار

خَلتْ دِراستَها في باح مدرسةٍ
وآثرتْ سعيَها بكل إصرار

تبيعُ خبزاً ، ولا تحيا تمُدُّ يداً
مَدُّ الأيادي يُصِيبُ النفسَ بالعار

وعينُها ترقبُ الدروسَ عن كثب
والأذنُ تُنصِتُ للمقروء والقاري

نوافذ الصف لم تغلقْ لتمنعَها
مِن التصنت بين الجار والجار

وكان درس حساب تستلذ به
وللمعلم شرحٌ يبلغ الساري

وراحَ يسألُ طلاباً له حضروا
فلم يُجيبوا ، فنادى: أين حُضاري؟

فزاد: عندي لمن يُجيبُ جائزة
فحاوِلوا ، وأنا أدلي بأفكاري

واستأذنتْ خارج الشباك طالبة
لمَّا تعُدْ بينهم لبعض إعسار

فصاح: قولي وهذي بعدُ جائزتي
هذي الخيارات يا (لمياءُ) فاختاري

حتى أجابتْ فنالتْ خيرَ جائزةٍ
ورُحتُ أسألُ في شوق وإنكار

ما سِر هذي أجيبوني بلا كذب؟
يُزري بعالمنا غموضُ أسرار

قالوا: المصاريفُ غولٌ ليس يَصرَعُه
إلا الذي ماله دُرٌ بقِنطار

قال: النقودُ أنا لكم سأدفعُها
خَصَصتُ (لمياءَ) يا قومي بإيثاري

وعادتِ الغادة العصماءُ يَسبقها
حَنينُ عزم له شديدُ إقرار

أن تبذل الجهدَ في سِر وفي عَلن
وأنْ تُفاجئنا بخير أخبار

حتى إذا انتظمَتْ في الدرس وانطلقتْ
وأخلصَتْ دِينها وقولَ أذكار

كانت نتيجتُها الأولى بلا حسدٍ
في مركز أول في عامها الحالي

حتى إذا وصلتْ لثانويتها
غادرتُ قريتها ، أنهيتُ مشواري

وجئتُ (سُوسَة) يَحدُوني الحنينُ لها
تضمُّ أهلي وخِلاني وأصهاري

مكثتُ عشرين عاماً لا أتابعُها
وعاقني بُعدُ بُلدان وأمصار

ما بين (سُوسَتنا) و(باجةٍ) أمَدٌ
ولم يكنْ لي إليها أي أسفار

أخبارُ (لمياء) عني هكذا انقطعتْ
لو باعَ أخبارَها فردٌ أنا الشاري

وجاءني ابني ، وأغراني بمُقترح
فقال: تصحَبني بدون أعذار

كُليَّة الطب تأتيها تُنوِّرُها
حتى أفاجئهم بسر أنواري

فقلتُ: أذهبُ هذي (تونسٌ) ، وكفى
عَلّي ألاقي بها عَتيقَ سُمَّاري

جلستُ في (الكافتريا) أستعيدُ صَدَىً
لخير طور مضى مِن جُل أطواري

وحَملقتْ فيَّ – يا للخجلة - امرأة
إليَّ قد لفتتْ عجيبَ إنظار

وقد عجبتُ لها تُطِيلُ نظرتها
هل أخطأتْ نظراً؟ أم سُوءُ إضمار؟

هنا تساءلتُ: مَن هذي؟ أنا حَذِرٌ
فهل تُفيدُ فؤاي بعضُ أحذاري؟

فقِيل: هذي؟ أجَلْ ، إنا لنعرفها
مشهورة شُهرة زيدتْ بإشهار

بروفيسورتُنا نارٌ على علم
كما يقولون هل علمت بالنار؟

في الطب عالمة لا يُستهانُ بها
والطبُ (كارٌ) ، وذي مليكة الكار

وأقبلتْ تحمِلُ البُشرى ، وتسألني
ألست تذكرُني يا خيرَ أقماري؟

فقلتُ: لا ، وأنا في الرُّزء مُنجدلٌ
وفوق رأسي رسا ثقيلُ أوقار

مَن أنت؟ قالت: أنا حُطامُ ضائعةٍ
وأنتَ أنقذتها مِن شر أوضار

والدمعُ يغمرُ عينيها وراحتها
يَسيلُ منحدراً يُزري بأنهار

وأكملتْ زبدة التعريف قائلة:
أنا التي عُلتُها في عمر أزهار

أنا التي بعتُ خبزي أستعينُ به
على بلاءٍ غزا في محنةٍ داري

سخرت مالك طوعاً كي تُعلمني
أنا المَدينة من رأسي لأظفاري

واليوم في الطب لي مكانة عظمتْ
والسعي سعيٌ عظيمٌ مُجهدٌ ضاري

لمياءُ ما نسِيَتْ بانيْ شرافتها
وللتصدُّق أجرٌ ثابت جاري

لو كنتُ شاعرة نظمتُ ماضيَنا
قصيدة نظمُها مِن خير أشعار

أو كنتُ كاتبة كتبتُ قِصتنا
نثراً يفوقُ بها جميع أنثار

حتى إذا فرغتْ مِن حُرِّ خطبتها
بكيتُ مُسترجعاً لطيفَ أقداري

وجهزتْ دعوة طابتْ وليمتها
بدون سابق إعلام وإنذار

دعتْ إليها لفيفاً عَز مَعشرُهم
وأعلمَتْ قومَها بكل إكبار

وناولتْني مِن التقدير أشرفه
ومِن تحايا لأهلي نصفَ قِنطار

وقلتُ ساعتها قولاً أتِيهُ به
وسوف يُذكرُ بعدي بضعَ أدهار

أنا المعلمُ ، والتعليمُ يشهدُ لي
أقول ذلك عن وعي وإقدار

رَعاكِ ربُّك يا (لمياءُ) ما سطعتْ
شمسٌ بضوءٍ ، وعمَّتْنا بأنوار

مناسبة القصيدة

(ألا إن قصة هذه القصيدة لقصة عجيبة حقاً! أما زمانها فيعود لأربعة عقودٍ مضت! وأما مسرح حدوثها فمدنٌ ثلاثة في تونس الخضراء: (تونس العاصمة – باجة – سوسة)! وأما عن الشخصيات فمعلم وتلميذته! يقول واحدٌ من المدرسين: كنت أدرِّس في مدرسةٍ ريفيةٍ في منطقةٍ نفزة ولاية باجة في تونس. وكل يوم كنت أشوف خارج الفصل الدراسي ، وتحديداً جنب الشباك بنتاً مسكينة وجميلة تغمرها براءة ، وراحت تبيع العيش (الخبز) لأمها كل صباح. حيث تخبزه الأم في دارها ، ثم تحمله البنت لتبيعه! وهذي البنت كانت قد تركت المدرسة هذه السنة بسبب الظروف المادية لعائلتها ، حيث عندها أربع أخوات صغيرات ، وأبوها توفي مخلفاً هذه اليتيمات وأمهن التي تأيمت على أطفالها ، وعلى هذا فالبنت تساعد أمها في مصاريف المعيشة وذلك ببيع العيش (الخبز) عند المدرسة. وفي يوم من الأيام ، كنت أشرح درساً في الحساب ، وبائعة العيش تتابعني من شباك الفصل وهي خارجه. سألتُ سؤالاً صعباً ، وخصصت له جائزة. وللأسف لا أحد من الطلبة ولا الطالبات عرف الجواب عليه. وفجأة نظرت خارج الصف من الشباك ، فوجدتُ بائعة العيش تؤشر بإصبعها من خارج الشباك وتصرخ: "أستاذ أستاذ" تسمح لي أن أجاوب على السؤال. فأذنتُ لها بالإجابة. فأجابت وكانت إجابتها صحيحة! ومن هذا اليوم راهنتُ عليها ، وتكفلتُ برعايتها وكل مصاريفها من مرتبي ، وعلى قدر ما أأستطيع من حاجاتٍ بسيطةٍ تساعدها على التعليم. واتفقت مع مدير المدرسة على أن يسجلها ثانية ويعيد لها قيدها في سجلات المدرسة. وعندما خرجت نتائج الامتحانات كانت هي الأولى على المدرسة! وكمَّلت في نفس النهج بإشرافي اليومي ، إلى أن وصلتها بفضل الله للمرحلة الثانوية. وبعدها انتقلتُ لمسقط رأسي في مدينة سوسة. وانقطعتْ صلتي بيها لمدة 20 سنة. وبعد هذه الفترة الطويلة ، حدث أنني ذهبت مع صديق لي للعاصمة التونسية ، وكان عنده ابن يدرس في كلية الطب بتونس مع ابني ، فطلب مني أذهب وولدي معه إلى الجامعة. وبينما أنا في الكافتيريا ، وجدت امرأة شابة جميلة تحدق فيَّ بشوق واستغراب وحنين ، وملامح وجهها كانت قد تغيرت لما شافتني ، وأنا لا أدري لماذا تُحملق هذه المرأة فيَّ هكذا! سألت ابن صديقي إذا كان يعرفها ، وأشرت إليها خفية ، فقال لي: "أعرفها طبعاً ، هذي البروفيسورة التي تدرس طلبة كلية الطب." سألني: "أتعرفها يا عمي؟ " قلت: "لا والله يا بُني ، لكن نظراتها لي غريبة جداً! "وفجأة جرت المرأة نحوي ، وأقبلت عليَّ في سرعة مذهلة وهي تبكي بحُرقة ، وبصوتٍ لفت نظر كل اللذين في الكافتيريا! وظن الجميع أني والدها! وهي تبكي وتقول لي: "ألا تذكرني يا أستاذي؟ أنا البنت التي كانت حطام إنسانة ، وأنت صنعت منها إنسانة ناجحة! أنا البنت التي كنت أنت السبب في رجوعها للمدرسة ، وصرفت عليها من حُر مالك لحد ما وصلت للذي هي فيه الآن! وهذا بفضل الله تعالى أولاً وآخراً ، ثم بفضل رعايتك واهتمامك وموقفك الإنساني الفريد. أنا بنتك لمياء (بائعة العيش)! "وهنا كدت أقع على الأرض مغمىً عليَّ من دهشتي وشدة تأثري من جانب ، وفرحي بها من جانب آخر! والله ، بكيت كثيراً لما افتكرت ماذا كانت بالأمس وماذا أصبحت اليوم؟ وبعد ذلك رحبتُ بها ، وجلست معنا في الكافتيريا تشرب الشاي بالنعناع ، وتحكي لي عن مشوارها الطويل من لحظة ما تركتها وقريتها في الثانوية العامة إلى اليوم! ودعتني أنا واللذين معي ومجموعة من الزملاء لبيتها ، وأخبرت أمها وأخواتها وكل الموجودين عني ، وهي تتكلم عن المعلم الإنسان اللذي ساندهم وكان سبباً في تغيير مجرى حياتهم. وألقيت كلمة قلت فيها جملة واحدة وأنا أبكي: "لأول مرة في حياتي أشعر أني معلم وإنسان!" ومن هنا كتبتُ قصيدتي هذي وأعطيتُها عنوان: (بائعة الخبز التونسية) تلك التي كانت مثالاً في الاجتهاد والطموح والتصميم ، حتى بلغت مبلغاً عظيماً! فاستحقتْ بذلك قصيدة حلوة ، تحث على الطموح ، وترسم الطريق للمجتهديـــن!)
© 2024 - موقع الشعر