عائشة التيمورية خنساء العصر! - أحمد علي سليمان

كأسٌ هو الموتُ الزؤامُ تدُورُ
منها سيشربُ يَافعٌ وكبيرُ

ليستْ ترَفقُ بالسقيم لسُقمِه
أو تحسُدُ الضرغامَ وهْو جَسور

والدهرُ ليس بغادر أو ظالم
إن ساقَ موتاً أمرُه مَقدور

فالمرءُ مَرهونٌ بعُمْر حُدِّدتْ
أيامُه وسِنيُّه وشهور

والقبرُ مُرتصدٌ جَثامين الألى
آجالهم جاءتْ ، فلا تأخير

لا ساعة يستقدمون مُرورَها
كلا ، فليس لما ارتجَوه مُرور

أو ساعة يستأخرون حلولها
إن المهيمن عنده التقدير

يا عائشَ الخير المنية إن أتتْ
ألفيتِ روحاً في الفضاء تطير

والجسمَ أسقتْه المنية كأسَها
وبدَتْ عليهِ دَلائلٌ وأمور

ما أسرعَ الأيامَ تختصرُ المدى
ولها على مُتأمل تأثير

بالأمس كنتِ بكيتِ بنتاً ودَّعتْ
هذي الحياة لنا ، وحَلَّ مصير

وبكيتِها بدم العيون ودمعها
سبعاً من السنوات وهْيَ تدور

لم تهنئي بالنوم ليلاً أو ضحىً
والقلبُ في أشجانه مأسور

والعيشُ جَندلتِ الحُزونُ سِنيَهُ
بسعيرها ، وكأنها تنور

توحيدة ذهبتْ ، وأذهبَتِ الهنا
ولكم حَوَتْ من طيبين قبور

تركتْ فراغاً ليس يملأه الورى
والحزنُ لا تُخفي جَواه سُتور

فبكيتِها بالشعر يُذهبُ صَدمة
جعلتْكِ وَجْعى ، والأنينُ جهير

واليومَ يبكيكِ القريضُ أديبة
فخرَ الزمانُ بها ، وشعَّ النور

واسترسلَ التاريخ في كيل الثنا
بمدائح وافى بها الجمهور

ناوأتِ مَن ظلموا النساءَ ، وعربدوا
وبظلمهم شقيَ الحِمى والدور

وحملتِ سيفَ الفكر يُوقِف طاغياً
طغيانُه بجهادكم مَثبور

ما قلتِ: وحدي ، والرياحُ عتية
والجيلُ غاو ، والظروفُ تمور

ما قلتِ: وحدي ، والعِدا لن يرحموا
والكيدُ عند عُتاتهم موفور

طالبتِهم بحقوق حواءٍ ، ولم
تخشَي بلاءً في البلاد يجور

أعلمْتِهم أن المليك قضى بها
فإذا بغيظ الظالمين يبور

وطرقتِ أبواباً تعذرَ طرقها
والسعي يا أخت الهُدى مشكور

وجَهرتِ بالشعر المجاهد حِسبة
حتى تُزالَ مِن الديار شُرور

وإلى الحجاب دعوتِ دعوة مَن زكَتْ
بالستر ، خابَ تبرجٌ وسُفور

ورأيتِ سَترَ الوجه فرضاً واجباً
فالوجهُ بالحُسن النضير يَفور

وهجَوتِ من رقصتْ وغنتْ تشتهي
فتْنَ الخلائق ، والفسادُ خسير

وسطرتِ ديواناً كمثل سبائكٍ
من عَسْجَدٍ فيها البيانُ قرير

يا عائشَ التوحيد شِعرُكِ طيبٌ
وله بقلب مَن اجتباهُ حُضور

خنساءَ عصركِ طبتِ أصلاً والصوى
والفكرُ طابَ ، وطيِّبَ التفكير

ديوانُكِ المطبوعُ سلوى عاشق
للشعر إنْ غشِيَ الفؤادَ فتور

والرِّيُّ شِعرُكِ إنْ تعقبَنا الظما
هو مَوئِلٌ مُستعفِفٌ وغدير

وعليكِ مِن رب السما رحَماتُه
إن الإلهَ لما يشاءُ قدير

مناسبة القصيدة

(عائشة التيمورية أو خنساء العصر ، هي واحدة من أديبات مصر المؤمنات الصامدات الداعيات إلى التوحيد والعقيدة والحشمة والحجاب والوقار! ولها الشرفُ أنها تفردتْ بأوليات ، وكأني بها تقول لنا: من له مثلُ أولياتي. فهي أول متعلمة وشاعرة وكاتبة وأديبة عربية في العصر الحديث. ولدت في عهد محمد على باشا ، ونادت بحقوق المرأة على منهج الإسلام لا منهج كوتاريللي ودانلوب! وفتحت الباب لتعليم النساء. حفظت القرآن كاملاً وتعلمت ثلاث لغاتٍ قبل بدء التعليم النظامى (العربية والفارسية والتركية! فمن عائشة التيمورية (1840-1902)؟! إنها عائشة (عصمت) بنت إسماعيل باشا بن محمد كاشف تيمور ، وهي شاعرة مصرية ، ولدت في أحد قصور «درب سعادة» ، وهو أحد أحياء الدرب الأحمر ، حين كانت تلك المنطقة مقرًا للطبقة الأرستقراطية ولعائلاتها العريقة ، وهي ابنة إسماعيل باشا تيمور رئيس القلم الإفرنجي للديوان الخديوي في عهد الخديوي إسماعيل (يَعْدل منصب وزير الخارجية حاليًا) ، ثم أصبح رئيسًا عامًا للديوان الخديوي ، كان اسم والدتها هو ماهتاب هانم ، كانت شركسية تنتمي للطبقة الأرستقراطية ، وهي أخت الِعالم الأديب أحمد تيمور ، ولكن من أم أخرى هي مهريار هانم شركسية الأصل أيضًا ، وعمة الكاتب المسرحي محمد تيمور ، والكاتب القصصي محمود تيمور! وكأن عائلتها شملت الأدباء العماليق! نشأت عائشة في بيت علم وسياسة ، فأبوها رجل له مكانته السياسية ورجل مثقف له شغف بمطالعة كتب الأدب ، وكانت عائشة تميل إلى المطالعة ، إلا أن أمها كانت تعارض هذا وأصرت على أن تتعلم عائشة ما تتعلمه الفتيات ، إلا أن عائشة استمرت في المطالعة ، فتفهم أبوها طبعها ، فأحضر لها أستاذين أحدهما لتعليم اللغة الفارسية والآخر للعلوم العربية ، وعلى هذا فعائشة نشأت في أسرة تركية غنية ، وتعلمت القراءة والكتابة في القصر على طريقة بنات الأكابر ، فتنبهت في نفسها الرغبة في المطالعة والإشراف على مجالس العلم في القصر ، فأخذت النحو والعروض عن فاطمة الأزهرية وستيتة الطبلاوية ، وأخذت الصرف والفارسية على علي خليل رجائي ، وأخذت القرآن والخط والفقه على إبراهيم تونسي ، وحفظت عشرات الدواوين ، وطالعت كتب الأدب حتى صارت تنظم الشعر بالعربية والفارسية والتركية ولها دواوين فيها جميعًا. ومن شعرها في الحجاب: بيد العفاف أَصـــون عـــز حجابي وِبِعِصمَتي أَسمـــو عَلى أَترابـــــي وَبِفِكــــــرَة وَقــــــادَة وَقَريحــــــة نَقـــــادَة قَد كَمَلَـــــت آدابـــــــــــي وَلَقَد نَظَمت الشِعرَ شيمَــــة مَعشَر قَبلى ذَوات الخُــدر وَالاأحســـــاب ما قُلتُه إلا فكاهـــــــــة ناطِــــــــق يَهوى بَلاغَـــــة مَنطِق وَكِتــــــاب
© 2024 - موقع الشعر