مخالب الغربة - أحمد علي سليمان

أيها المجنوز في نار الأسفْ
إنما الدُنيا سَرابٌ يرتجفْ

غُربة الإنسان فيها مُرةٌ
عَبْرها تسري الرزايا والعَجَف

غُربةُ تُهدي لحاديها الردى
وجَناها مِخلبٌ فيه الوَكف

غُربةُ - فوق فؤادي - سيفُها
أدمنتْ عِشقَ الدما دون هدف

حطمتْ عمداً جهاراً خُلتي
إن نور العُمر فيها ينكسف

غُربةٌ ، والحُرُّ فيها ضائعٌ
والرقيعُ النذلُ موفورُ الثطف

والعَميلُ الوغد فيها مُكرمٌ
ورفيعُ القدر يغشاه الجَنف

غُربةٌ تُعطي لمن يطغى الصوى
ثم تُعلي في الأنام المُنحرف

لستُ أرضى ذُلها بين الورى
ذاك سر المُكث في نار الأسف

نال من عينيَّ تخذيلُ الجوى
خِلتُ أن الموت حتماً قد أزف

باتَ سَهمُ الكرب يُدمي بسمتي
ثم راح العَزم حولي ينحسف

عاث خَطبُ الغدر في أمنيّتي
إن غدر الوغد يغتالُ الشرف

غار جُرحُ الهول في إشراقتي
ثم راح الجرفُ فوقي ينقعف

كبلتْ عِيرُ النفاق المُرتقى
كيف أمضي في العذاب المُرتصف؟

وانبرى سُم الأفاعي شاخصاً
لم أعد أقوى على هذي الذُعُف

وانطوتْ نفسي على آهاتها
ويحَ قلبي بت يكويني الدنف

ثم غشّى الدمعُ سلوى صفحتي
ودموعُ العينِ تكوي والشظف

اقرأ الحق ، وصاحبْ أهله
واتخذ صحباً يواقيتَ الصُّحف

صاح: قد تلقى كتاباً صاحباً
فبهدْي الكتْب يا صاح التحِف

كتب الحق المبين عُدة
تلك نعم الأهل والخل الألف

إنها - بعد المليك - عوننا
إنها البحر ، ومنها نرتشف

غربة طالت ، فزادتني أسىً
ضِقتُ ذرعاً بانفعالات الضفف

خمشتْ قلبي ، وشجّتْ خاطري
وطوتْني في تلافيف الأفف

كيف هذا الضيقُ أدمى دمعتي؟
كيف - في تيار وجدي - أنجرف؟

كيف لم أحذر دعاوى حاقدٍ؟
كيف - مُنذ البدء - لمّا ينكشف؟

كيف أسعى في متاهات الدُّجى؟
إن ظلم الناسِ يُردي والغسف

غربةُ الإنسانِ في هذي الدنا
عُزلةٌ ، والمرء فيها يعتكف

لِكن الشيطان أدمى أرضنا
كل شبر ، من سُهول أو قُذَف

فِسقهُ عال بأرحاب القُرى
في البوادي ، كان أو أعلى النجف

دُعرُهُ في كل وادٍ مُعلنٌ
يحتوي الإنسان من كُل الحيف

كيف يُغتال المُريدُ عفة
عبرَ هذا الدُعر والهزل الخرِف؟

كيف كادت لرؤاهُ جيفة
وغدت أغلاله تِلكَ الجيف؟

جيفةٌ تقضي بشرع من طغى
تُتقنُ القانونَ ، تهذي ، تحترف

جيفةٌ تحمي مواخير الخنا
هل عن القوّاد هذي تختلف؟

جيفةٌ تحت المحاريب انزوت
تمدحُ الشيطان مدح المُحترف

جيفةٌ عند الثغور كالردى
تُحكِم الأبواب غلقاً ، والخُنُف

جيفةٌ تحتال في صنع الهوى
إنما نارٌ - بدت - تِلك الوُظُف

جيفةٌ - فوق الرقاب - سيفها
تذبح التوحيد ذبح المُعتسف

جيفةٌ تكتب هزلاً ماجناً
هُم - لِما يرجو الشياطينُ - النصف

جيفةٌ قِبلتها مسرحُها
تجعل الإفلاس من بعض الثقف

جيفةٌ في البحر بادٍ عُريها
ثم تشكو الفقر - دوماً - والحفف

جيفةٌ عند الملاهي لَغوها
بل تعُد الفن من أحلى الحِرف

جيفةٌ تنساق خلف هزلها
أمةٌ - عن هدي ربي - تنحرف

جيفٌ أضحتْ تَعُوقُ سيرنا
وبهذا الحال إني أعترف

غُربةٌ ، والمرءُ فيها حائرٌ
من جحيم الغيظ فيها يَغترف

بين قومي كنت أحيا غُربة
حيثُ ضَلوا في أباطيل الصلف

قُلتُ حقي ، ما استجابوا للهُدى
لَعنةُ المولى على ذُل الترف

يَحسبون المال أصل عيشهم
ما أُحيلى العيش في درب الحنف

غير أن القوم لمّا يُدركوا
غيرَ مَلء البطن من شتى العلف

قُلتُ: يا قومي استجيبوا واعقلوا
غيرَ أن القوم باتوا كالتُحف

لم يُراعوا الله فيما قد جنوا
آه من حُمق المهازيل الصلف

إن درب الظلم يُردي أهله
والغبيّ الغرُّ ، أنى يأتلف؟

كيفَ يعلو مَن مراميه الهوى؟
إنما الإنسان توّاقُ الشغف

لكن النوكى متى تنظرْ لهم
تلقهم لمّا يُبالوا بالقشف

غُربةٌ ، واللهِ ، نالتْ من دمي
وأنا أشتاق فيها للشعف

أتركُ الدنيا ، ومَن هاموا بها
ثم أرعى - في بياديها - الحذف

صارت الآمال وحشاً كاسراً
واستحالت كالخيال المنعقف

وعَزا القلب المُعنى أنني
لم أكن للموبقات المُقترف

إنني فيها برئٌ مخبتٌ
واقع الأيام بات المعترف

أثبت الدهر - أخيراً - عِفتي
إن دهري عادلٌ ، لا يعتسف

والزمان العَذب من فرط الجوى
داعب الجِسم النحيل المُنعجف

ينقش الأحلام في أنشودتي
ما أُحيلاه وما أحلى القُطف

إن نور الفجر - في شعري يُرى
وابتسام الروح يسمو يلتهف

إن ضوء الشمس عِطرٌ ريحُهُ
عَطر الذكرى ، وغالى في الشفف

غيرَ أن النفس عاتٍ شوقها
ترقب الأسرار في جوف الصدف

غرّها نومُ المحار في الضحى
نالها في التو ما يعرو الكلف

غُربةٌ تجتاح فحوى هيبتي
وتعبي للأحاسيس النُجُف

ليت شِعري طال - بالقلب - الأذى
كيف أنأى عنك يا ذا المُنعطف؟

يا صديقي في متاهات الجوى
اُدرس التوحيد في كُتْب السلف

واعتزل أهل التجني والمِرا
ثم من أهل التردي لا تخف

إن تقوى الله كنزٌ ، فارعه
واذكر المولى نهاراً ، والزلف

والزم الحق الذي أُودعته
كُن لدين مَن مضى خير الخَلَف

يا عزيز النفس ، دنياك فنا
فانأ عنها ، أنت عنها مُنصرف

فيم تبكي في الورى هذي الدنا؟
إن في الإحساس آثارَ السرف

فاحمل النفس على بُغض الهوى
إن موت المرء يجتاز الأزف

وسليم الطبع عنها معرض
لا تغالط ، إنما العُمُر انتصف

وإذا فكرت فيمن قد مضوْا
باتَ كُلٌ في مقال مُختلف

فاحفظ المولى ، وحكّم شرعةُ
تُمْس في عز ، ويغشاك الغَطف

© 2024 - موقع الشعر