1من أصعب الأشياء، أن يكتب الإنسان تاريخ فراشةفتاريخ الفراشات، يكون عادة مكتوبا على أجنحتهابالأخضر.. والأزرق.. والأحمر.. والبرتقالي..ناديا توتي، هي فراشة منقوسة بالشعر من رأسها حتىقدميها..وأنا طول عمري، أحسب ألف حساب، قبل أن ألمسجناحي فراشة، حتى لا يهرهر غبار القمر علىأصابعي....الكلمة التي ألقاها الشاعر في ذكرى رحيل الشاعرة اللبنانيةناديا تويني في متحف سرسق في بيروت في شهر تشرين الأول اكتوبر 19842حين التقيت ناديا تويني لأول مرة، تصورت أنها طالغة منكتاب. لم أصدق عينيفالنساء عادة يطلعن من سوق الصاغة، أو من معارضالأزياء، أو من صالونات التجميل...يطلعن من شارع الحمراء.. أو من شارع فيافينيتو.. أو من شارع الفوبور سانت أونوريه..ولكنهن لا يطلعن – إلا نادرا – من غابات الكتب..ناديا تويني، حين شاهدتها، كانت جميلة ككتابومرصعة بالحروف والكلمات، كجدار كنيسة بيزنطيةكانت معتقه بالتاريخ.. ككأس نبيذ..ومكتظة بالعطايا كبيدر قمح...وكانت تتكحل، مرة، بحزنها الخصوصي..ومرة بحبر المطابع..ومرة، بأحزان لبنان....3صعب على شاعر أن يقترب من شعر ناديا تويني..فهي قمري شعري..وكانت أمي توصيني أن لا أقرأ على ضوء القمر..حتى لا أغرق في هذه المحبرة المشغولة بالحليب، والعشق، وأسلاك الذهب..الاقتراب من ناديا تويني صعب.. كالاقتراب من حمامةٍمرسومة على سقف كنيسة..كالاقتراب من ميعاد غرام..كالاقتراب من حورية البحر..كالاقتراب من ليلة القدر..كالاقتراب ؟؟؟؟4دعتني منذ سنوات إلى منزلها في (بيت مري).دعاني القمروحين انفتح الباب، واشتعلت ابتسامتهاكحقل من أزهار القطن، تذكرت نصيحة أميوخفت أن أقوم بأية حركة تجرح زجاج القمر..5يا ربي:كيف تستطيع امرأة أن تنعجن بالشعر، وتنزرع فيه، كما ينزرع الحلق الفضي في آذان الإسبانيات؟كيف يختلط دم القصيدة، بدم ناديا تويني! حتى إذا غرست دبوسًا في جسدها، لم تعرف أي دم سال.. دمالقصيدة.. أم دم ناديا تويني؟كيف تخرج ناديا من كتبها لتستقبل الناس، وتحادثهم،وتلاطفهم، ثم تعود في آخر الليل، لتنام في أجفان الحروف؟كيف يتطابق الأصل والصورة في هذا الكيان الضوئي،فلا تجد خللاولا تنافرًا بين الصوت وبين الشفتين.. بينالورقة وبين الأصابع.. بين البجعة وبين ماء البحيرة؟ففي حين نرى ناديا تويني، تلبس ثوب الشعر، وتبدوللناس طبيعية كسنبلة القمح.. نجد عشرات الشعراءالعرب يلبسون الثياب المستعارة إذا قابلوا الآخرين كأنهمفي حفلة كرنفال.. حتى إذا عادوا إلى بيوتهم، ونزعواملابسهم التنكرية، تحولوا إلى أبالسةٍ.. وشياطين..وإذا كان بعض الشعراء العرب، يشبهون شعرهم بنسبة 30 بالمئة.. وبعضهم يشبهون شعرهم بنسبة 10 بالمئة.. فإن بعض الشعراء لدينا، لا علاقة لهم إطلاقًا بما يكتبون..6ثمة اتفاقية جنتلمان بين ناديا تويني.. وبين الموت.كان يفتح الباب عليها، فإذا وجدها تكتب شعراً، اختجل من نفسه، وانسحب على أطراف أصابعه..حتى لكان الموت، قاريء للشعر، من الطراز الأولكانت تعطيه قصيدة، فيتخدر بإيقاعاتها الجميلة، وينام شهرًا...ثم يعود بعد شهر ليجبي الضريبة من جديد، فتسمعه نادياآخر قصيدة كتبتها.. فتسيل دموعه عل خديه، وينصرف..وهكذا، استطاعت ناديا تويني أن تدجن الموت.. وتقلمأظافره.. وترشوه بكلماتها الجميلة على مدى عشرين عامًا.الشعراء وحدهم هم القادرون على قلب مخططات الموت ولخبطة حساباته..وهم القادرون بالشعر، على إلغاء موتهم.. أو تأجيله على الأقل..فمن دانته، إلى شكسبير، إلى فاليري، إلى رامبو، إلى أراغون، إلى بابلو نيرودا، إلى المتنبي، إلى أبي تمام، إلى أمين نخلة، إلى بشارة الخوري، إلى إلياس أبي شبكة، إلى ناديا تويني.. كان الموتا يشعر بارتباك حقيقي في حضرة هؤلاء.. وفي حضرة كلماتهم العظيمة..7كانت جميلة كلبنان..صافية كينابيعه..عالية كأمواجه..طموحه كمراكبه..وادعة كرمال شواطئه.. ومغسولة بالوجع كأغانيه..لم يكن معقولًا أن يموت لبنان، وتبقى ناديا تويني.ولا كان معقولًا أن يتوقف قلب ناديا تويني عن النبض،ولا يتوقف قلب لبنان..هناك كائنات ترتبط دورتها الدموية، بالدورة الدموية لغروب الشمس مثلًا.وهناك كائنات، يرتبط جهازها العصبي، بعريشة عنب..أو شجرة دفلي.. أو بمحارة على شاطئ البحر..وهناك كائنات تسافر بتوقيت واحد مع بعضها، كالنجوم،والأسماك، واللقالق، ورائحة زهر البرتقال..ولأن ناديا تويني كانت جزءًا من سفر العصافير، وسفرالمراكب، ورائحة النعناع، وبكاء الأمطار على قراميدبيروت القدمية، فلقد قامت كل هذه الكائنات استقالتهاالجماعية إلى الله.. لأنها –بعد ناديا تويني- تشعر أنهاعاطلة عن العمل..بيروت، تشرين الأول (اكتوبر) 1984
عناوين مشابه
أحدث إضافات الديوان
إضافة تعليق - (( user.name )) - خروج
ادارة موقع الشعر (( comment.message.user.name )) (( comment.message.user.name ))
(( comment.message.text ))
لا يوجد تعليقات.