حِيَاضُ الْعِبْرَةِ مِنْ رِيَاضِ الْهِجْرَةِ.
مَعَ إِشْرَاقَةِ كُلِّ عَامٍ هِجْرِيٍّ جَدِيدٍ، يَهِلُّ هِلَالُهُ، وَيَبْزُغُ نَجْمُهُ، وَيَطْلُعُ فَجْرُهُ، وَتُشْرِقُ شَمْسُهُ.
تَأْتِي أَحْدَاثُ الْهِجْرَةِ؛ لِنَسْتَلْهِمَ مِنْهَا الْعِبْرَةَ.
وَمِنْ أَعْظَمِ دُرُوسِهَا، وَأَنْفَعِ عِبَرِهَا.
الاسْتِقَامَةُ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، هَذِهِ سَبِيلُ مَنْ طَلَبَ النَّجَاةَ مْنَ الْهُوَّةِ.
وَالْمُسْلِمُ الْعَاقِلُ مُطَالَبٌ أَنْ يُسْهِمَ فِي تَشْيِيدِ صَرْحِ هَذَا الدِّينِ الْمَجِيدِ، بِرَفْعِ رَايَةِ التَّوْحِيدِ.
فَحَرٍيٌّ بِكَ أَنْ تَكُونَ لَبِنَةً فِي بُنْيَانِهِ، زَهْرَةً فِي بُسْتَانِهِ، قَطْرَةً فِي فَيْضِ بَحْرِهِ، ذَرَّةً فِي بُقْعَةٍ مِنْ أَرْضِهِ، جُنْدِيًّا فِي جَيْشِهِ.
فَكُلُّ مُسْلِمٍ لَهُ دَوْرُهُ وَفْقَ مَا مَنَحَهُ اللهُ مِنْ مِنَحِهِ.
وَتَأْتِي أَحْدَاثُ الْهِجْرَةِ لِتُؤَكِّدَ فَعَالِيَّةَ الْمُسْلِمِ وَإِيجَابِيَّتَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، رِجَالًا وَنِسَاءً وَصِبْيَانًا.
وَتَأَمَّلْ أَدْوَارَ الْهِجْرَةِ:
"عَلِيٌّ" يَنَامُ فِي الْفِرَاشِ، وَ"أَسْمَاءُ" تَحْمِلُ الطَّعَامَ، وَ"عَامِرٌ" يُخْفِي الأَثَرَ، وَ"مُصْعَبٌ" لأَهْلِ الْمَدِينَةِ سَفِيرٌ، وَ"أَبُو بَكْرٍ" فِي الرِّحْلَةِ خَيْرُ رَفِيقٍ، وَ"خَالِدٌ" يَسْتَضِيفُ نُورَ الْبَشَرِ.
وَمَا بَيْنَ الْحِينِ وَالْحِينِ، يَهْتِفُ قَلْبِي بَيْنَ ضُلَوعِي: مَا قَدَّمْتَ لِهَذَا الدِّينِ؟
فَكُلُّنَا بِحَاجَةٍ إِلَى جَذْبَةٍ إِيمَانِيَّةٍ قَوِيَّةٍ، تُوقِدُ مِصْبَاحَ الْهِمَّةِ فِي ظُلْمَةِ غَفْلَةِ مُدْلَهِمَّةٍ.
- وَمِنْ أَعْظَمِ مَعَانِي الْهِجْرَةِ "حَمْلُ هَمِّ الدِّينِ".
فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَكَادُ يَحْمِلُ هَمَّ الدِّينِ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَحْمِلُ الدِّينُ هَمَّهُ مِنْ فَرْشِهِ إِلَى عَرْشِهِ، وَمِنْ مَهْدِهِ إِلَى لَحْدِهِ.
فَلِئِنْ فَرِحَ أَمَرَ الدِّينُ بِتَهْنِئَتِهِ، وَإِنْ مَرِضَ أَمَرَ بِعِيَادَتِهِ، وَإِنْ جَثَمَتْ عَلَى صَدْرِهِ كَارِثَةٌ أَمَرَ بِمُوَاسَاتِهِ، وَإِنْ نَزَلَتْ بِسَاحَتِهِ مُصِيبَةٌ أَمَرَ بِتَعْزِيَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ أَمَرَ بِتَغْسِيلِهِ وَتَكْفِينِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ.
فَالْعَاقِلُ حَيُّ الْقَلْبِ، يَقِظُ الضَّمِيرِ، مُرْهَفُ الْحِسِّ، جَيَّاشَ الْعَوَاطِفِ، يُعَايِشُ وَاقِعَ أُمَّتِهِ، فَيَقْشَعِرُّ جِلْدُهُ لانْتِهَاكِ حُرْمَةٍ، وَتَسْتَنْفِرُهُ مَأْسَاةُ أُمَّهٍ، وَتَتَفَجَّرُ شَفَقَتُهُ عِنْدَ كُلِّ غُمَّةٍ، وَيُقَاوِمُ الْخَطَرَاتِ الَّتِي تَخْتَنِقُ بِهَا الْعَبَرَاتُ.
فَيَا لَهَا مِنْ هُمُومٍ فَوْقَ هُمُومٍ، يَحْمِلُهَا هَذَا الدِّينُ الْمَيْمُونُ!
- وَمِنْ أَعْظَمِ مَعَانِي الْهِجْرَةِ "هِجْرَةُ الْمَعَاصِي، وَتَهْذِيبُ النَّفْسِ وَإِصْلَاحُهَا".
إِصْلاحُ النَّفْسِ بِدَايَةُ الإِصْلاحِ، وَسَبِيلُ كُلِّ فَلَاحٍ، فَنَفْسُكَ عَدُوُّكَ الأوَّلُ، إِذَا طَهَّرْتَهَا زَادَ إِيمَانُكَ.
فَاعْزِلِ النَّفْسَ عَنْ مَوَاطِنِ الْعِصْيَانِ، وَأَقِمْ جُسُورَ تَوْبَةٍ نَصُوحٍ لِتَطْهِيرِ الْجَنَانِ، وَالْزَمِ الصَّمْتِ، إِلَّا مِنْ ذِكْرٍ أَوْ نُصْحٍ فَإِنَّهُ مِنْ حُسْنِ السَّمْتِ، وَسَارِعِ إِلَى كُلِّ طَاعَة، وَخُذْ مِنْهَا بِسَهْمٍ كُلَّ سَاعَةٍ.
وَمَهْمَا اسْتَقَمْتَ يُطَوِّقُكَ التَّقْصِيرُ، فَاحْذَرْ عَلَى نَفْسِكَ الْعُجْبَ حَالَ الْمَسِيرِ؛ حَتَّى تُحَقِّقَ حُسْنَ الْمَصِيرِ، وَقَاوِمْ عَوَاصِفَ التَّسْوِيفِ، بِاسْتِحْضَارِ مَقَامِ الرَّجَاءِ وَالْوُقوُفِ عَلَى أَعْتَابِ التَّخْوِيفِ، فَإِذَا أَذْعَنَتْ نَفْسُكَ لِلْخَيْرِ وَطَاوَعَتْكَ، فَغَادِرْ كُلَّ حِينٍ الْمَعْصِيَةَ، وَبَادِرْ كُلَّ حَالٍ بِالتَّحْلِيَةِ.
- وَمِنْ أَعْظَمِ مَعَانِي الْهِجْرَةِ "مُعَالَجَةُ الْعُيُوبِ".
فَإِنِ اتُّهِمْتَ يَوْمًا بِعَيْبٍ ـ وَلَا مَحَالَةَ تُتَّهَمُ دُونَ رَيْبٍ ـ فَطِبْ نَفْسًا، وَطُبَّ عَيْبًا، وَادْفَعْ بِالْهِمَّةِ الْهَمَّ، وَاعْلَمْ أَنَّ اتِّهَامَ النَّاسِ بِهَوَى الْوَسْوَاسِ، وَتَوْزِيعَ الأَلْقَابِ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ مَا بَيِّنةٍ سِيَاسَةٌ مَاكِرَةٌ، وَدَلِيلُ ضَعْفٍ، وَبُرْهَانُ عَجْزٍ، وَعُنْوَانُ جَهْلٍ، "وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ"؟
- وَمِنْ أَعْظَمِ مَعَانِي الْهِجْرَةِ "صُحْبَةُ الْخَيْرِ تُنِيرُ الدَّرْبَ".
إِنْ بَحَثْتَ عَنْ صَاحِبٍ مُرْشِدٍ، مِنْ عُيُوبٍ الْخَلْقِ خَلَا فَلَنْ تَجِدَ، إِنَّمَا الْعِصْمَةُ لِلأنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ دُونَهُمْ قَدْرًا وَفَضْلا، هَذَا مِيزَانُ قِسْطٍ، وَإِنْ نَازَعَهُ الشَّطَطُ.
- وَمِنْ أَعْظَمِ مَعَانِي الْهِجْرَةِ "تَدَبُّرُ الْحَالِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهَا".
فَإِنَّ الْعَاقِلَ مَنْ نَظَرَ فِي الْعَوَاقِبِ نَظَرَ الْمُرَاقِبِ؛وَإِنَّمَا التَّدَبُّرُ الْحَقِيقُ الَّذِي يُرَقِّيكَ، وَمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ فَصَرَفَ عَقْلَهُ إِلَى رُتْبةِ التَّفْكِيرِ، قَوِيَ فِي الْحَالِ قَلْبُهُ بِلَا نَكِيرٍ، وَمَتَى سَكَنَ الْخَوْفُ مِنَ اللهِ قَلْبَ الْعَبْدِ، أَحْرَقَ مَوَاضِعَ الشَّهْوَةِ، وَقَضَى عَلَى مَوَاطِنِ النَّشْوَةِ، وَنَالَ عِنْدَ خَالِقِهِ رُتْبَةً عَلِيَّةً، وَبَيْنَ خلْقِهِ مَنْزِلَةً سَنِيَّة، وَانْتَظَمَ فِي صُفُوفِ أَهْلِ السَّعَادَةِ.
- وَمِنْ أَعْظَمِ مَعَانِي الْهِجْرَةِ "الثَّبَاتُ عِنَدَ النَّوَازِلِ".
ومَنْ خَاصَمَتْهُ عِنْدَ النَّوَازِلِ الْفِطْنَةُ، وَاسْتَبَدَّ بِهِ شِرَاكُ الْغَفْلَةِ، عَجَزَ عَقْلُهُ عَنْ خَلَاصِهِ، وَصَارَ غَنِيمَةَ الأَهْوَاءِ لافْتِرَاسِهِ، فَيَجِدُ بِهِ أُنْسًا مَوْهُومًا، وَشَوْقًا مَزْعُومًا، فَيَهْوِي فِي لُجَّةِ الْيَمِّ وَدُمُوعُهُ سَائِلَةٌ، وَيَدُورُ ثُمَّ يَدُورُ وَرُوحُهُ مِنَ النَّدِمِ زَائِلَةٌ، وَيَسْقُطُ صَرِيعًا غَرِيقًا لأدْنَي سَبَبٍ، وَيُحِيطُ بِهِ شُوَاظُ اللَّهِبِ، فَيُلْقَى بِهِ إِلَى دُرُوبِ الْهَلَاكِ وَضُرُوبِ الْعَطَبِ، وَحُضُورُ الأَجَلِ يَفْضَحُ الأَمَلَ.
فَهَلُّمَ إِلَى:
هِجْرَةٍ وَجِهَادٍ لِنَفْسِكَ عِلْمًا وَعَمَلًا.
هِجْرَةٍ وَجِهَادٍ لِغَيْرِكَ دَعْوَةً وَصَبْرًا.
كتبه : أشرف السيد الصباغ
إضافة تعليق - (( user.name )) - خروج
ادارة موقع الشعر (( comment.message.user.name )) (( comment.message.user.name ))
(( comment.message.text ))
لا يوجد تعليقات.