عَمَّة من عالم خيالي! - أحمد علي سليمان

سَبَتْ طيِّباتِ الوصفِ والسَّمتِ زينبُ
وباتتْ بها الأمثالُ في الرُّشْد تُضربُ

تسامتْ خِلالُ العِز في نفس بَرةٍ
ولمَّا يَكُنْ في بَذلها العُرفَ مَأرب

سِوى أجرها عند المُهيمن حِسبة
وعند مليك الناس لا أجرَ يذهب

صَفا قلبُها مِن كل حِقدٍ يَشِينه
وعاشتْ لبذل الخير تهوَى وتطرَبُ

وما راقبتْ خلقاً يَكِيلون مَدحَها
مَدائحُ مَن يُطري البلياتِ تُعْقِب

تزوجَها (زيدٌ) ، وكانت عَقيمة
وليس مِن المَقدور للخلق مَهرب

فعانتْ مِن التعيير يُزري بشأنها
وقاستْ مِن التوبيخ يٌجريه مُذنِب

وعدَّدَ (زيدٌ) يَنشدُ الوُلدَ راغباً
وللمرء ما يرجو ويهوى ويرغب

وعاشتْ ببيت الزوج أشرسُ ضُرَّةٍ
وذاقتْ صنوفَ الكيد في العيش زينب

وحاولتِ التوفيقَ رغم بلائها
فلم تستطعْ ، إن التحمُّلَ يَصعُب

فطلقها (زيدٌ) ، ولبَّى اختيارَها
وبيتُ أخيها فيه عاشت تُقرَّب

ورحبَ أهلٌ خففوا مِن مُصابها
وجاؤوا لها بالأنس والأمن تطلب

وعاشتْ شهوراً في يَسار ونِعمةٍ
وطابَ لها طعمٌ ونومٌ ومَشرب

وعاد لها (زيدٌ) يريدُ رجوعَها
فقالت: نجومُ الليل أدنى وأقرب

وزادتْ: أنا في الأهل أحيا مَليكة
أصَدِّرُ أخلاقي ، وألهو وألعب

فكيف أضَحِّي رغم أنفي ، وضُرَّتي
تكِيدُ وتستعدي ، وعَمداً تُؤلبُ؟

فهوِّنْ عليك ، البُعدُ أثقلَ كاهلي
وبالرغم كان الشيءُ أخشى وأرهَب

ظننتُ طلاقي أجتني منه فرحتي
وحُرِّية كادتْ مِن النفس تُسلب

فجاء طلاقي خيبة ومُصيبة
فهل في النسا مِثلي تني وتُخَيَّب؟

حنانيك يا زوجي ، ودَعني وكُربتي
وقلباً على جَمر الغضى يَتقلب

سَخِرتَ بحُبي ، واستبحتَ كَرامتي
فحتى متى أهواء نفس تُغلب

هنيئاً لك الدنيا بزوج جديدةٍ
ودودٍ ولودٍ ، أنت بالسِّت مُعجَب

وأولادُها يُهدونك السعدَ والهنا
وعَيشُك بالأولاد قطعاً مُحَبب

فقال: ادرُسي قالت: دَرستُ ، فخلني
وبيتك إمَّا عُدتُ صدِّقْ سيُخرَب

وليس يدومُ الحالُ هذي حقيقة
ودنيا الورى بَرقٌ يشي العينَ خُلّب

دَهتْ زوجَها الأمراضُ صَعبٌ علاجُها
وقالوا: إذا عادتْ إليه يُطبَّب

فجاءت تجُوبُ الصعبَ في التو ضرة
وقالت: بها زوجاً ببيتي أرَحِّب

فعادت سُروراً وانطلاقاً وفرحة
ونَدَّتْ عَقابيلٌ ، وزايلَ غيهب

وبَشَّ لها زوجٌ ، ودَفتْ طيوفه
ولمَّا يُؤرقه الذي يتهيب

وعلّمتِ الأولادَ مِن بعض عِلمها
وكانت عليهم في البليات تَحْدِب

ودامتْ على الحُسنى بَقية عُمرها
وصَدعُ القرابى بالعطاءات يُرأب

فلمَّا انقضى عُمرٌ ، ووافى حليلها
وولى شروقُ العُمْر إذ حانَ مَغرب

وودَّعتِ الدنيا إلى غير رَجعةٍ
وباتتْ إلى الأموات تُعْزى وتُنسب

فأبكتْ عيوناً ، والقلوبُ بَكتْ جَوىً
وسارتْ بها الرُّكبانُ ، وانقادَ مَوكِب

وصارت بُعَيدَ الموت ذِكرى جميلة
كأني بها في ظلمة الليل كوكب

فسبحان مَن يبقى ، ويَفنى الألى بَرا
وقوماً يُكافيهم ، وقوماً يٌعذب

مناسبة القصيدة

(الرفق جوهرة. كتب أحدهم:- كنت طفلاً في السابعة من العمر عندما سمعت عن طلاق عمتي ومجيئها للإقامة في بيتنا. توقعت أن أرى إنسانة حزينة من ردود أفعال أمي ، لكن المفاجأة أن عمتي كانت مبتسمة. وعندما كبرتُ عرفتُ أن زوجها طلقها لعدم إنجابها ، فتقبلت الأمر ، ولم تكن ناقمة عليه. بل كانت تقول في ثقة: الحق معه ، فهو محتاج للخِلفة. وأما أمي فكانت تُصاب بارتفاع الضغط ، لأن عمتي ليست ناقمة على زوجها الذي طلقها. لكن عمتي كانت تقول جملة غريبة: (الرفق جوهرة). لم أكن أفهمها ، لكني مع الوقت فهمت. والحقيقة أن عمتي إنسانة رفيقة تربَّتْ على التماس الأعذار ، وتوقنُ بأن الرفق بالآخرين هو أهم شيء. وكانت تعاون أمي في تربيتنا. فتحكي لنا القصص ، وتساعد في الرعاية بلا أي عصبية. وعندما كانت أمي تجري ورائي لتضربني ، كانت عمتي تقول: هذا سندك ، هل أحدٌ يضرب سنده؟ فتتراجع أمي. ولطالما أحببت عمتي رغم أنها من ناحية الشكل ليست بالجميلة. والمدهش أن زوجها بقي يتواصل ، ويريد إعادتها إلى عصمته ، وكان قد أنجب من زوجةٍ أخرى ، لكنها اعتذرت ولقد سمعته يقول لها: أريدك أن تربي أبنائي ، لكنها ردت عليه: الله يوفقك. وأما أمي الغالية فكانت عصبية جداً. وأما عمتي فكانت هادئة. وذات يوم أصاب أمي مرض احتاجت معه إلى مُلازمة المستشفى ، وعمتي قامت برعايتنا أثناء غيابها. واعتادت عمتي أن تقول دائماً هذه العبارة: (الرفق جوهرة). وفهمتُ أنها تعني الهدوء. فلا تضرب ولا تنفعل ولا تعادي. وكانت تقول بأن الإنسان أحوج مخلوق إلى الرفق. ولا أنسى عندما كادت إحدى أشجار حديقتنا أن تموت ، فعطفت عمتي عليها واهتمت بها حتى عادت إلى النمو. وعمتي هي التي علمتني الصلاة. وذات يوم قلت لها: أليس ربنا عظيم قد استغن عن خلقه؟ فلماذا يحتاج منا الصلاة؟ بماذا ستنفعه؟ فقالت بهدوء: الذي يتصل بملك الملوك هو الذي يستفيد. أم الملك يا صغيري فلا تنفعه صلاتنا. بل نحن نصلي من أجلنا نحن. نعم ، نحن نحتاج إل أجور صلواتنا. وأخي كان عالي الصوت ، فكانت تقول له دوماً: أحب صوتك الرائع المنخفض ، فكان يندهش. ثم فجأة بدأ يخفض صوته. ولما عادت أمي من المستشفى وجدتني أصلي وأخي قد كف عن ارتفاع الصوت. فكانت مفاجأة كبيرة لأمي. وذات مرةٍ رأيت عمتي تتأمل صورة زفافها ، فسألتها: هل أنتِ زعلانة لأنك لم تنجبي؟ فقالت مصححة المفهوم: الخلفة بيد من يا بُني؟ فقلت لها: بيد الله وحده. فقالت معقبة في يقين: الله لا يريد بي إلا خيراً ، أنا لست منزعجة من عدم الإنجاب. وبصراحة كنت أشعر في بعض الأحيان أنها مفتقدة لزوجها ، لكنها ليست راضية بالرجوع إليه رغم إلحاحه عليها بالعودة إليه. لا أنسى يوم عاد إلى بيتنا يومها جلس معها ومع أبي وأعمامي لإقناعها بالعودة إليه. وكان نادماً كل الندم على طلاقها. فقلت لها: ارجعي له. فكانت تبكي في حجرتها فربت عليها وأشفقت على حالها وقدرت شعورها وثمنت موقفها واحترمت رغبتها. وصارحتني فقالت لي: يا بُني ، زوجته الجديدة رافضة رجوعنا. وأنا لا أريد تضييعه هو وأطفاله. لكن زوجها كان مُصِراً على إعادتها. فسألته: لماذا؟ فقال لي: لا يوجد مثلها ، كانت أهم من كل شيء ، لكن أنا كنت غبياً عندما طلقتها. وأصرت على عدم العودة. وكنت بجوارها عندما تلقت اتصالاً من زوجته الثانية صارخة متوعدة: ابعدي عنه وردت عمتي برفق: حاضر ، وأغلقت الخط. فكنتُ منفجراً من الغيظ ، وقلتُ لها: لماذا لم تصرخي في وجهها وتعلمنها الأدب؟ فقالت بالدموع والكلمات: زوجة خائفة على زوجها يا بني ، فمتصورٌ منها أن تفعل أكثر من هذا. وتدهورت الحالة النفسية لزوج عمتي ، حتى اضطرت زوجته إلى الاتصال بعمتي ترجوها العودة إليه. فكنت مندهشاً. وأنا أعلم أن عمتي تحبه. واستجابتْ عمتي لطلب ضُرَّتها وعادتْ إلى زوجها. والعجيب أنها عندما عادت إليه ردت الحياة إلى نفسه. لكن المدهش هو أن كراهية زوجته لعمتي بدأت في الازدياد مع تحريض أولادها ضد عمتي. لكن عمتي كانت تصبر عليهم وتقدر تأثرهم بتحريض عمتي ، وتحتضنهم وتشفق عليهم. فسبب ذلك كله أن تعلقوا بها أكثر من أمهم. ثم تعلقت بها ضرتُها لمَّا عرفتها على حقيقتها وأدركت حسن معدنها وطيب أصلها وحسن طباعها وعذوبة تعاملها وصفاء نفسها. وأما عمتي فكانت توصيه خيراً بزوجته وأولاده. وكانت تقول لها: أنتِ له وللجميع أفضلُ مني بكثير ، فأنتِ الودود الولود ، وأنا عاقر. ألا إن عمتي قصة من الصبر والإنسانية المكتملة. واليوم بعد أن توفاها الله فجأة ، أقف أنا وأخي على دفنها وإلى جواري زوجها الباكي ، وضرتها الباكية ، وأبناؤه الثلاثة الباكون. والجميع لا تكاد أرجلهم أن تحملهم من هول ما نزل بهم. نشيعها بالدموع والنحيب ، وندرك بكل صدق أننا افتقدنا جميعاً إنسانة من عالم خيالي ، ليست من عالمنا المادي الذي طغت عليه الأنانية والنفعية والوضاعة والخسة والدناوة. عمَّتي عمَّة من عالم آخر. فلما
© 2025 - موقع الشعر