الشعر لا يقتات به! - أحمد علي سليمان

أتُزيلُ جوعَك يا سفيهُ قوافي؟
أيُبَلغ التقصيدُ حَدَّ كَفافِ؟

أيُحَقِقُ الآمالَ شِعرٌ صُغتَه
بدم الفؤاد ومَدمع ذرَّاف؟

أيُقِيلُ عَيشَك مِن عَثار مُدْقِع
شِعرٌ تجلببَ بالجلال الضافي؟

هل يَجلِبُ الأقواتَ شِعرٌ ثائرٌ
أبداً على التجويع والإجحاف؟

أيُعيدُ حقاً بالقصائد أفصَحَتْ
عن كل خير في الضمائر خافي؟

أو كل حق في القلوب مُطلسمٌ
والرمزُ حوَّله رَويَّ القافي؟

الشعرُ في الماضي سَبيلٌ للغِنى
ووسيلة للكسب بالآلاف

بالأمس كان الشعرُ دربَ سعادةٍ
وعلى الكلام مُوافقٌ ومُنافي

لكنه التاريخ يَشهدُ بالذي
دونتُ بالنص الصريح الصافي

أن القريض هناك أغنى أهله
وأعاشَ في عِز وفي استشراف

وعلى الكلام أدلة مَبسوطة
بشهادة الماضين والأسلاف

فتكسبَ الشعراءُ بالشعر الذي
قد أنشدوا في حضرة الأشراف

كان استماعٌ واهتمامٌ ، فاستمى
شِعرٌ زها في سُؤددٍ وطِراف

فقصيدة تُتلى ، فيَسطعُ نجمُها
ويُجيزُها مَولى ، وبعدُ يُكافي

وقصيدة تلقى على مُتشوق
فتُثيرُ فيه مكامنَ الأطياف

فيُجلُّ شاعرَها ، ويُمعِنُ في العطا
لا يُلجيء المُلقِي إلى استعطاف

كانت لنظم الشعر أعظمُ قِيمة
في أهل تطريب وأهل قوافي

وتفيأ الشعراءُ أشرفَ مَجدِهم
إذ حققوا ما كان من أهداف

فالشعرُ ديوانُ الحياة وضِدِّها
والشعرُ دربُ الناس للإيلاف

والشعرُ آلتُهم لإشعال الوغى
إذ ينفخ الثاراتِ في الأسياف

والشعرُ عُدَّتُهم لنشر فضائل
تغشى الحواضرَ ، أو تجوسُ فيافي

والشعرُ مَنهجُهم لإرساء الإخا
بين الورى بترفع وعفاف

بالشعر تندلعُ الحروبُ ، فيكتوي
بسعيرها قومٌ بكل تَجافي

ويُبادُ قومٌ أبرياءُ تشفياً
مِن آخرين أتَوْا بسوء خِلاف

وتزولُ أرواحٌ ليَحصدَها الفنا
ويَبوءُ مَن قتِلوا بالاستخفاف

بالشعر تبتسِمُ الحياة ، فلا ترى
حِلفاً يُصارعُ باقيَ الأحلاف

بالشعر تُشرقُ شمسُ سِلم وادع
فالأقوياءُ ترفقوا بضِعاف

بالشعر تنعقِدُ الصُّلوحُ على المَلا
والكل تحت مَظلة الإنصاف

الشعرُ في جُلِّ الأمور رفيقُهم
ويُمدُّهم بالعزم والألطاف

والقومُ فيه فمُكثِرٌ أشعارَه
حتى طغتْ كالوابل الغرَّاف

وسِواهُ – واأسفى – مُقِلٌ شِعرَه
فيهم كطلٍّ جاء بعد نفاف

واليوم أين الشعرُ؟ أين رُواتُه؟
أمسى يُكابدُ كبوة الإسفاف

ضاعتْ قضيته ، وخابَ دِفاعُها
ما نفعُ تشجيع وطولِ هتاف؟

والحكمُ أصدرَه القضاة ، فليس مِن
نقض لِما حكموا ، ولا استئناف

والساحة امتلأتْ بقوم جُهَّل
يَستشعرون بسيئ الأوصاف

تَخِذوا القريضَ مَطِية لتربُّح
والبعضُ بالنص الرَّقيع يُوافي

والبعضُ في لغة المَصاطب قابعٌ
والبعضُ آثرَ لهجة الأجلاف

لمَّا يعُدْ ذوقٌ يُحِسُّ ويَصطفي
ويُقيِّمُ الشُّعَرا ، وبعدُ يُصافي

يا قوم ضجَّ الشعرُ مِن دعَواتكم
لا تجرحوا الإحساسَ باستظراف

لمَّا يعُدْ للشِّعر سابقُ عهده
مِن طيِّب الغايات والأهداف

مَن ظن أن الشِّعرَ مصدرُ رزقه
فالظنُّ خابَ ، وخابَ عبدٌ غافي

إلا إذا ناجى الغوانيَ عابثاً
وأوى إلى السيقان والأرداف

ودعا إلى الرجس المَقِيت صراحة
وأثارَ شهْوات الشباب الفافي

وأتى بليلى ، واستباحَ جمالها
حتى يُهِيجَ غرائز الأضياف

واستعذبَ الفسقَ الحقيرَ صراحة
وتناولَ القسَماتِ بالإرهاف

لمَّا يَخفْ رباً ، ولم يَعبأ بما
قد جاءنا في سورة الأحقاف

وأشاحَ بالوجه المُجافي للهُدى
لم يتلُ مِن (هودٍ) ، ولا الأعراف

يوماً مصيرَ مجاهر بضلاله
ربِّ اكفنا مِن هوله يا كافي

وأنا الذي عُوفيتُ مِن هذا الخنا
سبحان مَن يُؤتي الهُدى ، ويُعافي

لمَّا أرِدْ بالشعر خيراً عاجلاً
لأخط ما يَقلو الهُدى ويُجافي

مَرَضاً أراه ، ولا علاجَ يُزيله
إلا الذي شرعَ الطبيبُ الشافي

مناسبة القصيدة

(كم سألني أولادي وأصدقائي والراسخون في معرفتي: ماذا استفدت من الشعر؟ كم عاد عليك من المال بشعرك؟ كم ربحت من المكاسب من الدواوين والأمسيات الشعرية وتحقيق الكتب؟ ولا أحري جوابأً سوى: الأجر عند الله موفور ومدخر يا قوم! والشعر يا أحبابنا ليس مهنة ولا حرفة ، إنما هو رسالة! وكل شاعر تاجر بشعره ، خرج شعره متصنعاً متكلفاً في عمومه ، ليس يحمل رسالة ولا يصحح مساراً ولا ينقد واقعاً ولا يرسم صورة مثلى للحياة والأحياء! مقال للأستاذ عبد العزيز جويدة يقول فيه: (في كل لقاءٍ يَجمعُني بفصيل من الشعراء الشباب أقول لهم ، ومازلت أكرر مقولتي لهم ، بأن كتابة الشعر في العالم العربي ليست من مصادر الرزق ، ولكن الشعر لدينا من باب الترفيه ، وكل من راهنوا على أن يكون الشعر مصدر قوت يومهم ولقمة عيشهم خسروا خسارة فادحة ، وكرهوا الشعر ، وكرهوا الحياة ، وعاشوا وماتوا فقراء ، وأصبح الشعر مصدر تعاستهم وفقرهم! فلا تتعاملوا مع الشعر بمبدأ الوظيفة! فالذين كانوا أعظم منكم موهبة قتلهم الفقر وقتل موهبتهم! فالشعر يحتاج إلى من ينفق عليه ، مثل كل طيور الزينة. الشعر يحتاج إلى سقف لا نهائي من الحرية. وحرية الشاعر لا تتأتى إلا بالتحرر من قيوده المادية ، كي لا تذله الحاجة ويقهره العوز في هذا الزمن الصعب للغاية! ذلك لأنك لن تستطيع أن تُبدع وأنت جائع ، ولا وأنت رهين المحبسين: الفقر والمرض! والحرية المادية لها حدٌ أدنى ، إن لم يتوفر تُصبحُ حياة الشاعر كلها أزماتٍ متصلة! والشاعر المتأزم بصفةٍ مستمرةٍ يفقد ذاته شيئاً فشيئاً ، ويفقد شهية الكتابة ومتعة القراءة ، وتتصلب فيه شرايين الحب ، ويتقوقع ذاتياً ، ويزهد في مخالطة الناس ، لأن الفقر هو أسرع طريق للشيخوخة المبكرة للقلوب ، وعندما يشيخ القلب تتعطل الحواس ، وتصيب المبدع بلادة في الشعور ، وتتكرر صوره وكلماته وأوجاعه فلا جديد لديه ، لأن المَعين يَنضب والروافد تجف والمياه تغيض ، فيصبح الشاعر ناقماً على الحياة وكارهاً للجميع. وتذكروا دائماً مقولة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: (لو كان الفقر رجلاً لقتلته)! وإياك أيها الشاعر الشاب في لحظة ، أن تتوقع أن جائزة ما في مسابقةٍ ما ستُغنيك وتُؤمن مستقبلك!
© 2024 - موقع الشعر