الأمانة بين الصيانة والخيانة - أحمد علي سليمان

أمانة كان هذا البيت يا غَجَرُ
يَصونها من له في الذكر مزدجرُ

ويحَ الأمانة ما صِينتْ ولا حُفظتْ
وكَسْرُها بعد لأي ليس يَنجبر

ويحَ الأمانة أهلوها لقد رحلوا
وكم سألنا فلا حِسٌ ولا أثر

ويحَ الأمانة لمَّا غابَ حافظها
بَكَتْه دَهراً ، ودمعُ العين ينحدر

حتى إذا يَبسَتْ غصونُها هلكتْ
مِن بعد أن أصبحتْ تزوَى وتحتضر

وطِئتُ دِيرتَكم شهماً له شرفٌ
وكم يُعِز الحِمى الأكياسُ والبُدُر

وليس من باب مدح النفس أعلِنها
لكنْ بنعمة ربي القولُ والخبر

أحدِّثُ الناسَ عن نُعمَى خُصِصْتُ بها
عليَّ أنعُمَها يا قوم مُقتدر

فعِشتُ بين جميع الناس مُحترماً
وسُمعتي بخِلال الخير تشتهر

وما بَخِلتُ على قومي بعارفةٍ
إذ كنتُ دوماً مع الرحمن أتَّجِر

وما جعلتُ بَناتِ الناس تسلية
إذ لم أكنْ بفتون الحُسن أنبهر

ما كنتُ (قيساً) ولا (ليلى) سَبَتْ رَشَدِي
والقلبُ ما كان لِلّذات ينحدر

وكنتُ من فتنة النسا على حذر
وكم يُفيدُ الحريصَ الوعيُ والحَذر

وجئتُ (كلية الآداب) مُلتمساً
آدابها ، حيث لي في درسِها وَطر

وإنَّ (منصورة) التعليم تشهدُ لي
لها عليَّ جميلٌ ليس يستتر

بها أتِيهُ وقد دَفتْ مناقِبها
أرقى دِيار بها الفؤادُ يفتخر

ولم أغازلْ بها حاشايَ غانية
إذ كنتُ بالعِلم والإيمان أتَّزر

فررتُ مِن شِقوة الفوضى إلى كُتبي
وعِشتُ عَفاً على التعليم أقتصر

لم تُلهني فتنة البنات عن هدفي
شأنَ التقاة الألى نفوسَهم قهروا

أصَمُّ أعمى عن الغادات عن رغب
كأنما ليس لي سَمعٌ ولا بَصر

حتى إذا اكتملتْ أعوام أربعة
بهن فاخرَ بي ، وطابَ لي العُمُر

أضفتُ للضاد – إنْ حَدَّثتُ - ضُرَّتَها
هما لِمَا أنتويه الشمسُ والقمر

واخترتُ (سُوهاجَ) أحيا في مَرابعها
فالأهلُ فيها عِزازٌ سادةٌ غُرر

فيها سأكْمِلُ مِشواري وتجربتي
وأطلبُ العِلمَ مِقداماً ، وأصطبر

وأصطفي مِن بنات الحَيِّ مُؤمنة
تكونُ زوجاً بها الحياة تزدهر

فقلتَ يا صاحبي: لمَن ستترُكُنا
إذا رَحلتَ قلوبُ الناس تنفطر

إنا نحبُّك حباً لا مثيلَ له
فادرسْ قرارَك تُرضينا وتبتشر

كنا نردِّدُها إشاعة صَدَمَتْ
أرواحَ قومٍ بمحبوبٍ لهم ظفِروا

أصابنا الحزنُ لمَّا قلتها عَلناً
وانظرْ دموعاً من العيون تنهمر

فقلتُ: رفقاً ، ألا ترى البلاءَ طغى
إني إلى عودةٍ للأهل أفتقر

وأسْرتي اليومَ لا يَخفى تنكُرُها
وكم تُدَمِّرُ أفذاذاً بها أسَر

وكنتُ حاولتُ إصلاحاً فما قبلوا
بل جُندِلوا عِشرتي وهدَّني الكدر

فقلتُ: أهجرُهم هجراً يُطمئنُهم
أني أنفذ – رغم الأنف – ما أمروا

فقلتُ: يا صاح بنتي لا أضِنُّ بها
عليك زوجاً ، بها تزفك البُشُر

فقلت: دعني يكادُ الفِكر يقتلني
وكم تُعذبُ عقلاً تائهاً فِكَر

درسْتُ ما قلتُ درساً غيرَ مُرتجل
ثم استشرتُ الألى بحالتي خبروا

ثم استخرتُ لكي تنزاحُ وسوسة
فارتاح قلبي ، وحَلَّ السعدُ والسمر

واخترتُ سُكنايَ بالإيجار مبتعدا
عن داركم ، وأنا عن ذاك أعتذر

فقلتَ: في بيتنا الزواجُ يا رجُلاً
فقلتُ: كلا ، ففي ما قلته خطر

فقلتَ: تبني بُييتاً في مَحلتنا
فقلتُ: شارٍ أنا ، والدَّينُ منتظر

فقلتَ: بنتي لها حقٌ أسجِّله
هذا اعترافٌ إذا حققت معتبر

فقلتُ: أبني وما شككتُ خردلة
فيما ذكرتَ ، فلا غمْط ولا بطر

بَيَّتُّ حُسْنَ النوايا في معاملتي
وإذ تزوَّجتُ بانَ اللؤمُ والدبر

في عِيشةٍ فقدتْ عمداً سعادتها
وجيرة لم يَصُنْ حقوقها الغجَر

وبين مَدٍ وجَزر غالَ عِشرتنا
قومٌ مِن الكيد والتغرير ما طهُروا

حتى أتتْ فرصة بالكاد سانحة
فيها الرحيلُ أتى يسوقه السفر

وإذ رحلتُ فقد بانتْ مقاصِدُكم
وأحرَقَ الودَّ والقرابة السُّعُر

وكان رَهط مِن الأصحاب أنذرني
فهل تُفيدُ قليلَ الخبرة النذر؟

لم أوتَ عِلماً عن المكر المُبير أنا
كي أستعينَ به على الألى مَكروا

ولم تكنْ خبرة عندي ، فتعصمُني
مِن الذين إذا تكلموا سحروا

تخِذتُمُ البيت لمَّا غِبتُ توسعة
مثلَ القراصن مِن أعدائهم ثأروا

وعنه رُدَّ بنص الذكر أكبرُكم
قيلَ: ارجعوا فاشتكى وذلك الشرر

لذا استُبيحَ ، وقد قلاه صاحبُه
كأن قوماً على غازي الحِمى قدَروا

بئسَ الجوارُ غدا ظلماً ومَخبثة
لم يأتِ ذلك أعرابٌ ولا مَجَر

كيف استبحتُم دخولَ البيت ، حُرمتُه
في الذكر خطتْ ، ومنها العَفُّ يَدَّكِر

أمانة ينبغي قطعاً صيانتُها
والاهتمامُ بها جاءتْ بذا سِيَر

ومَن يخونوا بلا حق أمانتهم
فجُلهم نعمة الدارين قد خسروا

حظيرة يُصبحُ البيت الكريم ضُحَىً
والجارُ صِهرٌ رجوعَ الجار ينتظر

واللهِ ما قبلتْ نفسي تطاولكم
وليس يقبله الأحرارُ يا نَوَر

ماءُ الشتاء بَرئٌ مِن تخرُّصِّكم
وليس يُسعِفكم جدٌّ ولا هزر

هو (المُشمَّع) يُقصِيهِ بلا نصب
فأفصِحُوا عن نوايا السوء يا تتر

وعَزلُ ماء الشتا ما كان مُعضلة
لكنه الغدرُ مَخبوءٌ ومُدَّخر

هل الشتاءُ لدى الفلّاح مُشكلة؟
إن الخيورَ له يسوقها المطر

لكنْ طمِعتُم ، وزكَّى حِقدَكم حَسَدٌ
ما حِيلة المَرء في قوم إذا فجروا

هل الذي جئتُمُ رّدُّ الجميل لنا
لم يشكر اللهَ مَن للناس ما شكروا

لِقاؤنا عند رب الناس خالقِنا
نتقصُّ منكم ، فقد أودى بنا الضرر

قضاءُ رب الورى عدلٌ ، ألا انتبهوا
إن المهيمن جبَّارٌ ومقتدر

مناسبة القصيدة

(كان هذا العريس قد ابتُليَ بخيارين أحلاهما مُر! فإما أن يستأجر بيتاً ليُقيم فيه هو وعروسه وإما أن يبني بيتاً في أرض أصهاره الذين أبدَوا محبته ، وأظهروا مَوَدَّته! وعرضَ على صهره أبي العروس وصاحب الأرض أن يشتريها منه ، ويكون السداد على الأيام حسب الوسع! فأبى الصهرُ وقال: هذه القطعة من الأرض هدية لابنتي! فبنى العريسُ البيت ، وكان سقفه ألواحاً من الخشب عليها الحطب والقش ، وطبيعي جداً أنه إن كان يقي من الحر صيفاً فلا يمنع من المطر شتاءً! وسافر العريس ، واستباح الأصهارُ البيت ، وحولوه إلى حظيرة للدواجن! وخان الأصهارُ الأمانة ، فما صانوها بالصيانة ولا حفظوها ولا رَعَوها حق رعايتها ، وذلك بتركها على عِلتها ، وهذا أضعف الإيمان! وكان ذلك منهم على سبيل التمهيد لهدم ذلك البيت ، ولنا الظاهر ، والله تعالى يتولى السرائر! والأصل أنهم جيرانٌ وأصهارٌ في الوقت ذاته! وكانت إحداهما تغني عن الأخرى ، وتكفي للمحافظة على البيت من التلف والهدم! وليس ما يتطلبه البيت أمراً مُستحيلاً مُكلفاً! إنها بضعة أمتار من المُشمع البلاستيكي أو المَطاطي السَّمِيك تُفرش فوق سطحه ، لتحُول بين مياه الأمطار وبين البيت ، فلا يلحقه التلفُ والعطب! ولكن البيت أهملَ تمامَ الإهمال! فهل هذه مراعاة حقوق الجار؟ وهل هذه صِيانة الأمانة وحفظها؟ وهل هذه وشيجة مُصاهرة وقرابة؟! فأنشدتُ حكاية عن هذا العريس المسكين هذه القصيدة الانتصارية ، باعتباري أحطتُ بالقصة كلها الدنيا – وتخيلته يقول لأصهاره: يا عِرة الأصهار وحُثالة المَعارف والأنساب - ليست نهاية المطاف ، وعند الله تعالى تجتمعُ الخصوم! والله أشدُّ بأساً وأشدُّ تنكيلاً! والله حَكَمٌ عدلٌ ، هلك المُرتابون!)
© 2024 - موقع الشعر