1ينطلق صوتي، هذه المرة، من دمشقينطلق من بيت أمي وأبيفي الشام. تتغير جغرافية جسديتصبح كريات دمي خضراء.وأبجديتي خضراءفي الشام ينبت لفمي فم جديدوينبت لصوتي، صوت جديدوتصبح أصابعي،قبيلة من الأصابع1- المقدمة التي أفتتح بها الشاعر أمسيته الشعرية التي قدمها في معرض الكتاب الدولي بدمشق بتاريخ 22/9/19882أعود إلى دمشقممتطيًا صهوة سحابهممتطيًا أجمل حصانين في الدنيانحصان العشقوحصان الشعر..أعود بعد ستين عاماًلأبحث عن حبل مشيمتي،وعن الحلاق الدمشقي، الذي ختنني،وعن القابلة التي رمتني في طست تحت السريروقبضت من أبي ليرة ذهبيةوخرجت من بيتنا..في ذلك اليوم من شهر آذار عام 1923ويداها ملطختان بدم القصيدة3أدخل دمشق..من جهة (باب البريد)حاملًا معي،عشرة أطنان من مكاتب الهوىكنت قد أرسلتها في القرن الأول للهجرةولكنها لم تصل إلى عنوان الحبيبأو فرمها مقص الرقيب..لذلك.. قررت أن أحمل بريدي على كتفيلعل التي أحببتها..وهي تلميذة في المدرسة الثانويةقبل خمسة عشر قرنًالا تزال ترسب في امتحاناتهاتضامنًا مع ليلى العامريةومريم المجدليةورابعة العدويةوكل المعذبات في الحب.. في هذا العالم الثالثأو لعل الرقيب الذي كان يغتال رسائليقد نقلوه إلى مصلحة تسجيل السياراتأو أدخلوه إلى مدرسة لمحو الأميةأو تزوج ممن كان يقرأ لها رسائليمنتحلاً إسمي..وإمضائي..وجرأة قصائدي..4أعود إلى الرحم الذي تشكلت فيه..وإلى الكتاب الأول الذي قرأت فيه..وإلى المرأة الأولى التي علمتنيجغرافية الحب..وجغرافية النساء..أعود..بعدما تناثرت أجزائي في كل القاراتوتناثر سعالي في كل الفنادقفبعد شراشف أمي المعطرة بصابون الغارلم أجد سريرًا أنام عليه..وبعد عروسة الزيت والزعتر..التي كانت تلفها لي،لم تعد تعجبني أي عروس في الدنيا..وبعد مربى السفرجل الذي كانت تصنعه بيديهالم أعد متحمسًا لإفطار الصباحوبعد شراب التوت الذي كانت تعصرهلم يسكرني أي نبيذ..5أدخل صحن الجامع الأمويأسلم على كل من فيهزاوية.. زاويةبلاطة.. بلاطةحمامة.. حمامةأتجول في بساتين الخط الكوفيوأقطف أزهاراً جميلة من كلام الله...وأسمع بعيني صوت الفسيفساء..وموسيقى مسابح العقيق..تأخذني حالة من التجلي والإنخطاف،فأصعد درجات أول مئذنة تصادفنيمناديًا:"حي على الياسمين""حي على الياسمين"6عائد إليكم..وأنا مضرج بأمطار حنينيعائدٌ.. لأملاء جيوبيبالقضامة، والجانرك، واللوز الأخضرعائد إلى محارتيعائد إلى سرير ولادتيفلا نوافير فرسايعوضتني عن (مقهى النوفره)ولا سوق الهال في باريسعوضني عن (سوق الجمعة)..ولا قصر باكنغهام في لندنعوضني عن (قصر العظم)..ولا حمام ساحة (سان ماركو) في فينيسياأكثر بركة مع حمائم الجامع الأمويولا قبر نابليون في الأنفاليدأكثر جلالًا من قبر صلاح الدين الأيوبي..قد يتهمني البعض..بأنني عدت إلى السباحة في بحار الرومانسيةإنني لا أرفض التهمةفكما للأسماك مياهها الإقليميةفإن للقصائد أيضًا مياهها الإقليميةوأنا – كأي سمكة تكتب شعرًا-لا أريد أن أموت أختناقًا...7أتجول في حارات دمشق الضيقةتستيقظ العيون العسلية، خلف الشبابيكوتسلم علي..تحط الحمائم من أبراجها..وتسلم علي..تخرج لي القطط الشامية النظيفةالتي ولدت معنا..وراهقت معنا..وتزوجت معنا..لتسلم علي...تضع قليلًا من الماكياج على وجهها..شأن كل النساء..تصنع لي قهوة طيبةوتعرفني على أولادها.. وأصهارها.. وأحفادها..وتخبرني أن أكبر أولادها..سيتخرج هذا العام، طبيبًا من جامعة دمشقوأن أصغر بناتها تزوجت من أمير عربيوسافرت معه إلى الخليج..تكرج الدمعة في عيني..وأستأذن بالإنصراف..وأنا مطمئن على شجرة العائلةومستقبل السلالات..8أتغلغل في (سوق البزورية)مبحرًا في سحب البهاروغمائم القرنفل..والقرفه..واليانسون..أتوضأ بماء الورد مرةوبماء العشق مرات..وأنسى –وأنا في سوق العطارينجميع مستحضرات (نينا ريتشي)..و (كوكو شانيل)..ماذا تفعل بي دمشق؟كيف تغير ثقافتي ، وذوقي الجمالي؟فينسيني رنين طاسات (عرق السوس)كونشرتو البيانو لرحما نينوف..كيف تغيرني بساتين الشام؟فأصبح أول عازف في الدنيايقود أوركسترامن شجر الصفصاف!!9جئتكم..من تاريخ الوردة الدمشقيةالتي تختصر تاريخ العطر..ومن ذاكرة المتنبيالتي تختصر تاريخ الشعر..جئتكم..من أزهار النارنج..والأضاليا..والنرجس..والشاب الظريف..التي علمتني أول الرسم...جئتكم..من ضحة النساء الشامياتالتي علمتني أول الموسيقى..وأول المراهقة..ومن مزاريب حارتناالتي علمتني أول البكاءومن سجادة صلاة أميالتي علمتنيأول الطريق إلى الله..10افتح جوارير الذاكرةواحدًا.. واحدًا..أتذكر أبي..خارجًا من معمله في (زقاق معاوية)كأنه غمامة من عطر الفانيليا..أتذكر عربات الخيل..وبائعي الصبارة..ومقاهي (الربوة)التي تكاد – بعد بطحة العرق الخامسة-أن تسقط في النهر..أتذكر المناشف الملونةوهي ترقصعلى باب (حمام الخياطين)كأنها تحتفل بعيدها القوميأتذكر البيوت الدمشقيةبمقابض أبوابها النحاسيةوسقوفها المطرزة بالقيشانيوباحاتها الجوانيةالتي تذكرك بأوصاف الجنة...11البيت الدمشقيخارج على نص الفن المعماريهندسة البيوت عندنا..تقوم على أساس عاطفيفكل بيت.. يسند خاصره البيت الآخروكل شرفة..تمد يدها للشرفة المقابله..البيوت الدمشقية بيوت عاشقة..فهي تسلم على بعضها صباحًا..وتتبادل الزيارات..-في السر- ليلًا..12عندما كنت دبلوماسيًا في بريطانياقبل ثلاثين عاماًكانت أمي ترسل لي في مطلع الربيعفي داخل كل رسالةحزمة (طرخون)...وعندما ارتاب الإنجليز في رسائليأخذوها إلى المختبر..ووضعوها تحت أشعة الليزروأحالوها إلى سكوتلانديارد..وخبراء المتفجرات..وعندما تعبوا مني.. ومن (طرخوني)..سألوني: قل لنا بحق الله..ما اسم هذه العشبة السحرية التي دوختنا؟هل هي تعويذه؟أم هي دواء؟أم هي شفرة سرية؟وماذا يقابلها باللغة الإنجليزية؟...قلت لهم: صعب أن أشرح لكم الأمر..فالطرخون لغة تتكلمها بساتين الشام فقط..وهو عشبتنا المقدسة..وبلاغتنا المعطرة..ولو عرف شاعركم العظيم شكسبير الطرخونلكانت مسرحياته أفضل..وباختصار..إن أمي امرأة طيبة جدا.. وتحبني جدا..وعندما كانت تشتاق لي..كانت ترسل لي باقة طرخون..فالطرخون عندها، هو المعادل العاطفيلكلمة يا حبيبي...أو لكلمة تقربني..وعندما لم يفهم الإنجليز حرفا واحدا من مرافعتي الشعرية...أعادوا لي طرخوني.... وأغلقوا محضر التحقيق....عائد إليكم..من اخر فضاءات الحريةواخر فضاءات الجنونفي قلبي..شيء من أحزان أبي فراس الحمدانيوفي عيني..قبس من حرائق ديك الجن الحمصيمشكلتي..أن الشعر عندي هو برق لا عقل لهوزلزال..لا يستعمل حاسبات كاسيو اليابانيه..ربما ركبت حصان الشعر..برعونة.. ونزق..ولكنني.. لم أغير سروجيولم أشتغل سائسا بالأجره..أو شاعرا بالأجره..صحيح.. أنني ربحت أكثر من سباقوحصلت على مداليات ذهبية كثيرةوصحيح.. أن الشعب العربي..طوقني بأكاليل الغار..إلا أن أحزاني..كانت دائما طويلة كسنابل القمح..فلقد كسرت ساقي ألف مره..وكسرت رقبتي ألف مره..وكسر عمودي الفقري، مليون مرهوإذا كنت أقف أمامكم على المنبروأنا بكامل لياقتي الجسدية..فلانني..أقف على عظام كبريائي....من خان أسعد باشايخرج أبو خليل القبانيبقنبازه الدمسكو..وعمامته المقصبه..وعينه المسكنتين بالأسئله..كعيني هاملت...يحاول أن يقدم مسرحا طليعيافيطالبونه بخيمة قرة كوز..يحاول، أن يجد صوتا نسائيا واحدايغني معه..يا مال الشام يا شامي..فيخرطشون بواريدهم العثمانيةويطلقون النار على شجرة ورد..تحترف الغناء...يحاول أن يجد امرأة واحده..تردد وراءه:يا طيره طيري يا حمامه..فيستلون سكاكينهمويذبحون كل سلالات الحمام..وكل سلالات النساء...بعد مئة عام...إعتذرت دمشق لأبي خليل القبانيوشيدت مسرحا جميلا باسمهوصارت أغنية يا مال الشام، يا شامينشيدا، رسميا مقرراعلى كل مدارس الإناث في سوريه....15ألبس جبة محي الدين بن عربيوأهبط من قمة جبل قاسيونجاملا لأطفال المدينه..خوخا..ورمانا..وحلاوة سمسميه..ولنسائها..أطواق الفيروز..وقصائد الحب..أدخل..في نفق طويل من العصافير..والمنثور..والخبيزه..والياسمين العراتلي..أدخل في أسئلة العطر..تضيع مني حقيبتي المدرسيةوالسفرطاس النحاسيالذي كنت لأحمل فيه طعامي..والخرزة الزرقاء..التي كانت تعلقها أمي في صدريفيا أهل الشام..من وجدني منكم.. فليردني إلى أم المعتززثوابه عند الله..أنا عصفوركم الأخضر..يا أهل الشامفمن وجدني منكم.. فليطعمني حبة قمح..أنا وردتكم الدمشقية.. يا أهل الشامفمن وجدني منكم، فليضعنيفي أول مزهريهأنا شاعركم المجنون.. يا أهل الشامفمن راني منكم.. فليتقط لي صورة تذكاريةقبل أن أشفى من جنوني الجميل..أنا قمركم المشرد.. يا أهل الشامفمن راني منكم..فليتبرع لي بقراش.. وبطانية صوف..أنني لم أنم منذ قرون...جنيف أيلول سبتمبر 1988
عناوين مشابه
أحدث إضافات الديوان
إضافة تعليق - (( user.name )) - خروج
ادارة موقع الشعر (( comment.message.user.name )) (( comment.message.user.name ))
(( comment.message.text ))
لا يوجد تعليقات.