ياسمين والرحيل إلى الله! - أحمد علي سليمان

دَمْعُ العيون - على (ياسْمينَ) - ينحدرُ
والقلبُ - مما جرى - يأسى وينفطرُ

والنفسُ تجترُ آلاماً تُسَربلها
ويستبدُ - بها - الإيلامُ والضجر

وتُؤلمُ الروحَ أشجانٌ تُكابدُها
والحزنُ يَزدردُ البُشرى ، ويَستعر

في قصةٍ صُبغتْ بالكرب أحرفها
والنص تخنقُه الآهاتُ والكَدر

أوّاهُ لو تُرجعُ الأحزانُ مَن رحلوا
حزنتُ دهراً على أشاوس قبروا

ياسْمينُ ذِكراكِ لم تبرحْ خواطرَنا
فكم نفاخرُ بالذكرى ، ونفتخر

مازال صوتُك بالقرآن يُطربُنا
فيهِ العذوبة والترنيم والسمر

وفوق مِشجبه الحجابُ نشهدُهُ
وخلفه الدرعُ والجلبابُ والخُمُر

وتحت كُرسِيّكِ السجادة افتُرشتْ
بها احتفى القلبُ والإحساسُ والنظر

صَليْتِ ما شئتِ يا بنتاهُ عن رَغب
وفوق خديكِ بات الدمعُ ينهمر

ثم اشتكتْ ألماً - في البطن - يُؤلمُها
والطبُ حارَ ، ولاحَ الشكُ والخطر

وفاجأ (اسْتِيفنُ) الجميعَ مُعتذراً
عن أي شيئ خبيرُ الطب يعتذر؟

ماذا وراءك يا دكتورُ مِن خبَر؟
عساه يُسعدُ أهلاً ذلك الخبر

عساك تحملُ بُشرى الخير تُسْعِدُنا
إنا لبُشراكَ يا دكتورُ نفتقر

ياسمينُ هذي لنا أكسيرُ عِيشتنا
والنورُ والفرحُ بل والسمعُ والبصر

فقال: سِتاً من الشهور عِيشتُها
وبعدهن نرى (ياسْمينَ) تُحتضَر

وينقضي العمرُ ، لا تبقى بشاشتُهُ
وتُصبحُ البنتُ في عِداد مَن قبروا

والجسمُ يُزوى ويُفني الموتُ نضْرتَهُ
إذا دنا أجَلٌ ، وودّع العمُر

يا سيدي سرطانُ الدمّ جَندَلها
وهَدّ قوّتها ، فاستفحلَ الضرر

إن التحاليل هالتْني نتائجُها
طالعتُها ، ودموعُ العين تنحدر

وكنتُ أرجعْتُ - في أوراقها - بصري
لعل شيئاً - عن العينين - يستتر

فارتد لي بصري مؤكداً خبراً
كأنهُ الشمس إذ طلعتْ أو القمر

ماذا أقولُ لكم ، واليأس يخنقني
وضِقتُ ذرعاً به ، ما عدتُ أصطبر

ألومُ طبي ومستشفايَ والزملا
ما الطبُ إنْ خيّمَ القضاءُ والقدر؟

البنتُ يا قومنا - واللهِ - راحلة
وداؤها بين أهل الطب مُشتهر

أقول هذا ، وكُلي حسرة وأسىً
حتى المزاجُ – من المأساة - مُعتكِر

أجترّ حزني ، وآلامي تُزلزلني
وليس لي من جوى خواطري وَزر

خذوا الفتاة ، وعِيشوا الست في مرح
كما تعيشُ - على التفاؤل - الأسر

فعادتِ الأسرة العصماءُ ضاربة
كَفاً بكفٍ ، وأردى حِرصَها الحَذر

والأبّ داهمَه البكاءُ مُكتئباً
وكَسْرُ خاطره ما عادَ يَنجبر

والأم كانت لها الأخبارُ صاعقة
وهل يُطيقُ لظى الصواعق البشر؟

غابت عن الوعي ، أعيتْها مصائبُها
لم تحتملْ أن ترى (ياسْمين) ما ذكروا

أما أخوها فغطاها بدمعته
وغالبتْه عليها أدمُعٌ أخَر

مُسْتبعداً أن يرى (ياسْمين) مَيّتة
ما انفك تندبُه الخِلالُ والسِيَر

قضى المليكُ - على الجميع - سُنته
والموتُ - يا صاح - لا يُبقي ولا يذر

وأيقنَ الكل أن الموت مُدركُها
عما قريب سيزوَى شخصُها العطر

أما الطبيبُ فألقى بعضَ أسئلة
على الفتاة يُواسيها ومَن حضروا

فسَلمتْ أمرها لله قانعة
وليس ينفعُها خوفٌ ولا حذر

ولن تُفيدَ - مع المصاب - هينمة
وفي تلاوة آي الذكر مُزدجَر

والست مرتْ مرورَ الطيف حالمة
وموتُ (ياسْمين) يا للهول يبتدر

والوجهُ أشرقَ لم تُخطئهُ نضرتُهُ
وللرحيل مدىً – بالسعد - يُختصر

والسقفُ شُقّ عن الملائك انتشروا
في مَوكب ضاق عنه السمعُ والبصر

وللرواة على الأخبار عُهدتُهم
إني أدوّنُ ما جميعُهم نشروا

وودّعتْ أهلها (ياسْمينُ) راحلة
إلى المهيمن ، نِعمَ المَشهدُ النضر

أراحَكِ اللهُ يا(ياسْمين) من مرض
يَفنى الأنامُ به مُستبشعٌ أشِر

عليكِ رحمة رب الناس ما ينعتْ
ورودُ رَوض ، وفاحَ العِطرُ والزهَر

مناسبة القصيدة

(ليس يعرفُ الموتُ صغيراً أو كبيراً ، ولا يعرفُ غنياً أو فقيراً ، ولا يعرفُ وزيراً أو خفيراً! وإنما لكل مخلوق أجله ، فإذا انتهى الأجل أسلمتِ الروحُ إلى باريها ، وأخذتِ الأرض نصيبَها من بني آدم إلى حين! وتلك كانت رحلة الحياة المؤقتة على الأرض! ثم يحشرُ اللهُ تعالى الخلائقَ للحياة الأبدية حسبَ أعمالهم! إنها قصة من أروع القصص الواقعية المؤثرة التي قرأتها في حياتي، وكانت قد حصلت لطفلة صغيرة تقية صالحة رغم صغر سنها ، وهي قصة من أعجب القصص ، سيرويها لنا أبوها وهو لبناني اشتغل في السعودية فترة من الزمن! قال ذلك الأب: عشت في الدمام عشر سنين ورزقتُ فيها بابنةٍ واحدةٍ أسميتها ياسمين ، وكان قد ولد لي من قبلها ابن واحد وأسميته أحمد! وكان يكبرها بثمان سنين ، وكنت أعمل هنا في مهنةٍ هندسية. فأنا مهندس وحائز على درجة الدكتوراة في الهندسة ، وكانت ابنتي ياسمين آية من الجمال! فلها وجهٌ نورانيٌ زاهر! ومع بلوغها التسع سنوات رأيتها من تلقاء نفسها تلبس الحجاب وتصلي وتواظب على قراءة القرآن ، بصورة ملفتة للنظر. فكانت ما إن تنتهي من أداء واجباتها المدرسية حتى تقوم على الفور ، وتفترش سجادة صلاتها الصغيرة ، وتأخذ في قراءة قرآنها ، وهي ترتله ترتيلاً طفولياً ساحراً! فكنت أقول لها: قومي العبي مع صديقاتك. فكانت تقول: صديقي هو قرآني. وصديقي هو ربي. ونعم الصديق! وسافرت إلى أمريكا لأعمل ، ومرضت ياسمين ، فقال لي الدكتور ستيفن طبيب ياسمين: إنها مصابة بسرطان الدم ، وللأسف المرض عندها في مراحله الأخيرة جداً ، ولم يبق لها من العمر إلا قريباً من ستة أشهر ، وقبل مجيئكم تم عرض التحاليل على أعضاء لجنة مرضى السرطان في المنطقة ، وقد أقروا جميعاً بذلك من واقع التحاليل. فلم أتمالك نفسي ، وانخرطت في البكاء ، وقلت: مسكينة! فقالت ياسمين: حقا سأرحل إلى الله ؟! وهل هو سيئ الرحيل إلى الله؟ ألم تعلماني يا والدي بأن الله أفضل من الوالدين والناس وكل الدنيا؟ وهل رحيلي إلى الله يجعلك تبكي يا أبي ، ويجعل أمي يغمى عليها؟! فوقع كلامها البريء الشفاف مثل صاعقة أخرى! فياسمين ترى في الموت رحلة شيقة ، فيها لقاء مع الله حبيب كل المؤمنين به والتالين لكتابه وهي منهم بلا شك! ثم فاجأتنا جميعاً بعد أشهرها الستة ، وقالت: تنح يا والدي قليلاً ، فإن أحس بأن سقف الحجرة قد انشق ، وأرى أناساً مبتسمين لم أرهم في حياتي ، لابسين البياض ، وأحس بأنهم قادمون نحوي ، ويدعونني لمشاركتهم في التحليق معهم إلى الله تعالى ، وما لبثت أن أغمضت عينيها وهي مبتسمة تقول: لا إله إلا الله ، لا إله ألا الله ، ورحلت ابنتي ياسْمين إلى الله رب العالمين! والله لقد قرأت هذه القصة بالدموع ، وكتبتُ قصيدتي عنها بالحزن والشجن! فرحم الله ياسمين ، وأدخلها الجنة!)
© 2024 - موقع الشعر